لأنها تحدثُ لغير السعوديين!



لو قـُدِّر لغيرِ سعوديٍّ يعيش بالسعودية أن يكتـُب في عمود صحيفة كـ "الوطن" أو "شمس"، بذات التوجُّه المعتاد الذي ينتهجُه الكـُتاب السعوديون، ومثلُ الأريحية، ونفس السقفِ من الحُريِّة؛ فماذا سيقول صديقي السُّوري الذي حكى ليَ اليوم قصَّةً خاضَها البارحة في الجوازات، كي يُدخل بصمات أصابعه في النظام الآلي، بحسب القانون الجديد الذي أقرَّته وزارة الداخلية السعودية. أقسِم بالله أني لو لم أعرف أطرافها ومكان حُدوثها، لحِسبتُ أنها لمجموعة من المهاجرين الزنوج، قبل حركة التحرر من العبودية في القرن التاسع عشر، وأنه كان أحدهم!

حربٌ نفسية قاسية عاشَ أحداثها منذ الساعة السابعة صباحاً، عندما وصل إلى المقر، واصطفَّ في صفٍ طويل يضُم الطبقة الوسطى والدُّنيا من الوافدين الذين يعملون في السعودية، وحتى وصل – مِن تحتِ الشِّمس – إلى المكتب المُكيَّف في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً، مُعذباً هوَ وأقرانـُه بالوافدين من أصحاب حجوزات الدرجة الأولى، وأعضاء الطبقة الأرجوزاية الراقية من غير السعوديين في السعودية، الذين دخلوا عبر مدخلٍ آخر مباشرة مِن أمام أعينهم، دون صفٍ أو رصفٍ أو عصفٍ، وذلك عبر جوازاتِ سفرٍ أمريكية وأوربية ولبنانية، دون أي اعتبار لرموز التعاسة، المصطفين تحت رحمة شمس لا ترحم.

يقول: وبعد أن دخلتُ المكتب لأبصم، وجدت تعاملاً لا يليق إلا بالبقر، أو من هـُم دونهم قليلاً! جنودٌ يصرخون متأمِّرين: "وقف هنا.. تحرك.. إنت أطرش.. وجهك لهناك يا غبي.. رح الشباك الثاني.. إنت ما تفهم" يُملون ما تمليه عليهم أمزجتهم الغوغائية على من هم مُرتزقةٍ في أعينهم. تخيل يا محمد أن أحد المصريين المحترمين، هكذا بدا من هيئته وهندامه، رنَّ هاتفه فرد، وفجأة قفز أحد الجنود من مكانه ليخطف الهاتف من أذن المصري، مستصغراً إياه بأعلى صوته أمام الجميع قائلاً: "ما قلت لك لا تتكلم بالجوال، إنت ما تفهم!.. أقول.. هات بس هات إقامتك وجواز سفرك، وما في بصمة ولا جوال، إمش إطلع برَّه، أنا أعلمك كيف تسمع الكلام"!

مواقف تبكي الإنسانية، وتخلِّد في أرضنا عبودية قاسية، فلا أفواه تتحدث، ولا أقلام تكتب، فقط لأنها تحدثُ لغير السعوديين.

عادَ صديقي بعد أن بَصَم، إلى مكانه تحت الشمس منتظراً، ولم يستلم إقامته إلا الساعة الثالثة عصراً! وطبيعي جداً أن لا يُخبروه متى سيستلمها، وطبيعي أكثر لو أخبروه أنه إن تحرَّك حتى اليوم التالي من مكانه، فلن يستلم شيئاً، فهو لن يتحرَّك، لأنه مُسرَّج بإحكام، ولو حاول المقاومة، فلن يجد نفسه إلا في مهانة مِن فوقها مهانة.

هذا كان صديقي، وماذا لو أمسكت إفريقية بقلمٍ لا تخشاه، وبدأت تحكي حكاية قدومها، والأفواه التي تنتظرها في قريتها، ثم قِصصها مع نبش النفايات بحثاً عن هـُليلاتٍ تجنيها آخر النهار، وحكاياتها مع الذل تحتَ السَّماء، وبيتُ الرُّعب الذي يستـُرها بالفضاء.

وماذا لو تحدَّث المحترمون من بقية الجنسيات، عامل النفايات، والبقالة، والبوفيِّة، والدائرة، عن تعامل أصحابِ لـُقمتِهم أو المواطنين المَحسوبين على الإنسانية أو جنود الشرطة أو الجوازات معهم، لقالوا ما لا يعقله مُتـِّزن، ولكشفوا في طيَّاتِ أحاديثهم عن قلوبٍ مِن رماد، أحرقها الكِبرُ والجشعُ، وفضحتها أعمالٌ لا تقل ظلمة عن ظلمهم، وقيحاً عمَّا انعقدت عليه قرائحهم.

إنهم لا يُريدون ملائكة بسَّامين، ولا بشراً بالطيبِ كاملين، ولا غيرَ الخنوع للأنظمة والقوانين، هم فقط يريدون مَن يُذكرهم بإنسانيتهم، ورجوعِ أنسابهم لأبي الأنبياء والناس أجمعين.

تعليقات

  1. جيت على الجرح يامحمد ... الله ينتقم من كل انسان اساء استخدام سلطته وتعالى وعلى غيره

    ردحذف
  2. هذا حال الكثير من بني جلدتنا !

    إنتقاص الآخرين ..

    و تصنيفهم حسب الجنسية .. بعيداً عن الآدمية , العجيب يا صديقي أن ديننا الذي هو عصمة أمرنا , هو من يحثنا على الرفق ليس بالإنسان فحسب بل حتى بالحيوانات !!!

    ردحذف

إرسال تعليق