في تلك الحقبة الرمادية من مطلع القرن العشرين، حين كانت السينما لا تزال تحبو في مهدها الصامت، وكانت الصورة لغة كونية لا تحتاج إلى ترجمان يفك شفرتها، بزغ نجم تشارلي تشابلن كأيقونة عصية على النسيان في سِفر الذاكرة البشرية. لم يكن هذا الرجل القادم من ضباب لندن الكئيب مجرد عابر سبيل في عالم الفن السابع، بل كان فيلسوفاً وجودياً يرتدي ثياب متشرد، وقديساً دنيوياً يعبث بعصاه الخيزران الرقيقة في وجه البؤس العظيم. لقد نجح، بعبقرية نادرة، في تحويل الفقر المدقع والجوع الكافر الذي كابده طفلاً في ملاجئ الأيتام وأزقة لندن الخلفية إلى ملحمة بصرية باذخة، جاعلاً من شخصية "المتشرد" (The Tramp) مرآة اجتماعية صافية تعكس أوجاع الطبقات المسحوقة التي وجدت في تعثراته المضحكة انتصاراً لكرامتها الجريحة، وفي هروبه الدائم من رجال الشرطة نوعاً من الحرية الفوضوية التي عزّت عليهم في واقعهم الاقتصادي المرير. إن ملابسه بحد ذاتها كانت وثيقة احتجاج؛ فالسترة الضيقة، والسروال الفضفاض، والقبعة التي تحاول حفظ ماء الوجه، والحذاء الذي يفوق مقاس قدميه، كلها كانت ترمز لعدم توافق الإنسان البسيط مع مقاييس عالمه القاسي.
تجلى هذا العمق الإنساني بوضوح ساطع في يناير 1921، حين أطلق تشابلن فيلمه الخالد "الفتى" (The Kid)، الذي لم يكن محض شريط للضحك العابر، بل كان دوزنة دقيقة لأوتار الروح بين الابتسامة المشرقة والدمعة المالحة. في هذا العمل، سكب تشابلن حزنه الشخصي وذكريات طفولته البائسة ليصنع لوحة فنية عن الأبوة التي تنبت كزهرة برية عنيدة في قحط الفقر، مؤكداً للعالم أن العاطفة الصادقة لا تحتاج إلى حسابات بنكية أو أنساب رفيعة لتنمو وتثمر. لقد كان مشهد المطاردة عبر الأسطح لإنقاذ "الفتى" من أيدي موظفي الرعاية الاجتماعية تجسيداً للصراع الأزلي بين دفء العلاقات الإنسانية وبرودة البيروقراطية الحكومية، مما جعل الفيلم وثيقة اجتماعية دامغة تتجاوز حدود الترفيه.
وحين دارت رحى الصناعة الثقيلة وسحقت تروسُها روحَ الفرد في منتصف الثلاثينيات، انتفض هذا الفنان الصامت في فبراير 1936 عبر تحفته السينمائية "الأزمنة الحديثة" (Modern Times). في هذا العمل، حول تشابلن جسده النحيل وحركاته البهلوانية إلى صرخة احتجاج مدوية ضد الآلة الرأسمالية الجبارة التي حولت البشر إلى مجرد أرقام صماء في قوائم الإنتاج الضخم. كانت رقصته الهستيرية وسط التروس والمسننات سخرية مريرة من عبثية التكديس المادي على حساب الروح، ومحاكمة فنية للنظام الاقتصادي العالمي في ذروة أزمات "الكساد الكبير". لقد استشرف بذكاء حاد مخاطر التحول إلى "الإنسان الآلي"، سابقاً عصره في نقد العولمة المتوحشة وتسليع البشر قبل أن يُصك المصطلح بعقود طويلة. لم يكن مشهد "آلة الطعام" التي تحاول إطعام العامل قسراً لتوفير الوقت إلا نبوءة مخيفة عن هيمنة التكنولوجيا على أخص خصائصنا البيولوجية.
لقد آثر تشابلن أن يبقى في ذروة مجده أيقونة للصمت البليغ، مدركاً أن الإيماءة الصادقة والنظرة المعبرة التي تنبع من معاناة الإنسان البسيط قد تكون أبلغ أثراً وأبقى خلوداً من ألف خطبة سياسية عصماء.
لقد رحل عن عالمنا بجسده، لكنه ترك خلفه عصاه وقبعته وإرثاً فنياً يطرح علينا سؤالاً أزلياً معلقاً في وجدان الحداثة: هل كان هذا "المتشرد" يضحكنا حقاً لتسلية وقتنا الضائع، أم كان يمرر من تحت قناع الابتسامة البلهاء مراثي عصرنا المادي الذي ما زلنا -دون وعي منا- ندور في تروس آلاته العملاقة، تماماً كما تنبأ في رؤيته البصرية الثاقبة؟ إنها تراجيديا العصر الحديث التي صيغت بمداد من ضحك، لتبقى شاهدة على أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يخرج من رحم المعاناة ليضيء عتمة العالم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق