قبل أن نقول: "يخس!" ـ


بلغتْ فتوى الشيخ "الكلباني" في إباحة الغِناء مَبلغها، وتناولها المؤيِّد والمُعارِض باهتمام، لأنها تَمَسُّ أمراً يومياً لا يَغيب ولا يُغيَّب. ولستُ هنا بمُفنِّدٍ لمتونُ أدلِّته وتواترها، مع أن الاستقصاء في زمننا هذا بات سهلاً مُيسَّراً، ولكني أخشى الزلل عند الاستنباط، أو أن أنزلقَ مع هواي فأضِلُّ وأُضلِّل، وحسبي في هذا الباب ما رواه ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم" عن أبي أمامة الباهلي أنه قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الإثم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حاك في صدرك شيء فَدَعه". وقد علق ابن رجب على الحديث بقوله: إسنادُه جيد على شرطِ مُسلم. وحسَّن الشوكاني في كتابيه "إرشاد الفحول" و"الفتح الرباني" قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس". والألباني قد حكم على وجه آخر لرواية الحديث بالصحة في غير موضع. "ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس" إنها الفيصلُ الجامع في أمرِ قضية الغناء وتبايُن الفتاوي في حُكمها.

ولكن الإشكال ليس في إجازة "الكلباني" ولا رد مفتي المملكة الذي خطَّأ "الكلباني" ولا دعوة خطيب مكة السديس بالحَجْر عليه. إن الإشكال في مَن خاطَب "الكلباني" وأفتى! إنه في مُجتمع أُسِّسَ على الرأي الواحد في كل حُكم، حتى لو كان لا يخصُّ الدين ولا الشريعة. إنه في طِفل نشأ على: "لا تجادل عمَّك... عيب"، وفتاة تربَّت على: "الأبلة دائماً صح". إن الإشكال في رأي رجل المرور الذي لا يُناقَش، ورأي القاضي حين يقول: "إذا تكلمت راح أزيد مُدَّة السجن". إنَّ الإشكال في أحادية تفكير رجال الهيئة حين يتسابقون إلى سوء الظن الذي أخشاه على أمهاتهم، والإشكال في زوج هوَ مَن يُحدد لزوجته متى وأين تكشف وجهها ومتى تحتجب. إنه في مُعلِّمٍ لغة عربية يقول لطالب مُجتهد: "فلسفتك في شرح الأبيات أنقصتك درجتين"، وموظف خطوط جوية يُقدِّم ابن عمه على كامل الصف بقرار منه، ورجل أمن يتخيَّر مَن مِن الشباب يدخل إلى المول.

إن "الكلباني" لم يُخطئ حين أفتى، ولكنه أخطأ حين راسَل عقلاً عُجِنَ على أن لا يعرفَ من الألوان غير الأبيض والأسود، وكبُرَ على الحرام الذي تعلمه الآباء، ويُمارسه في الخفاء الأبناء. وأخطأ حين لم يَعلم – وأظنه كذلك – أنَّ نسبة كبيرة مِمَّن يستمعون للأغاني مِن قبل بروزِ كلمته، وظن أنه سيُنقذهم ويُريحهم من حياة التناقض القاتم الذي يعيشونه؛ ينتقدون الآن فتواه، ويسخرون منه، ويتحسرون عليه، بل قال لي بعضهم وفي يده (أرقيلة)، وقناة روتانا ترقُصُ من خلفه: "شُفت الشيخ إللي حلل الأغاني؟ يخس عليه! مع إن دليل التحريم واضح، وهذا جاي يحللها؟ يا ويله من الله".

إنَّ فتوى "الكلباني" ليست دعوة للانفتاح على الدنيا، بل هي دعوة مُهمَّة لفتح عُقول أغلقها التوارُث، وكبلتها الأحادية، ويُحيط بها التناقُض من كل جانب. دعوى بيضاءُ الراية للإيمان بالاختلاف، والقراءة والبحث، قبل أن نقول: "يخس!".

تعليقات

  1. نحن مع الأسف لا نعرف أدب الخلاف.. بغض النظر أنا مع من أو ضد من..
    الله يعين
    مقالك قوي

    ردحذف
  2. جميل أخي ولو رأيت بعض المعارضين للفتوى

    تجدهم ممن يسمع الأغاني ويشاهد الراقصات تناقض غريب

    شكرًا لك

    ردحذف
  3. أخي ريان،
    شكراً على تعليقك وبالفعل... الله يعين.

    ردحذف
  4. أختي نوفة،
    للأسف هذا أغلب الواقع.

    شكراً لتعليقك.

    ردحذف

إرسال تعليق