الاسْتِخـْطَاء!


قبل ثلاث سنوات، قد تزيد أو تنقص قليلاً، أذكر أني دُعيت إلى اجتماع للمدونين السعوديين، وحظيتُ بالتعرف والاقتراب أكثر من مدوِّنين كِبار، شرُفت بهم ومازلت أستفيد من بحورهم. وكان الاجتماع موجَّهاً - بصورة ما - إلى تعظيم دور التدوين، وكيف أنه أثر في الرأي العام في عدة دول عربية وغربية، وتخلل ذلك دعوة للشعور بعظم الدور الذي يحققه المدوِّن على صعيد إصلاح وطنه وأمته التي ينتمي إليها.


لقد أصاب ما سمعته ورأيته في تلك السويعات شطراً في عقلي، وأنساني أني ناهِجُ أدبٍ وشُويعِر ومدعي تأملٍ وفلسفة، وصيَّرني إلى السؤال الثقيل: هل ما كنتُ أفعله في مدونتي صحيح؟ هل يجب حين أكون مدوِّناً حقاً أن أطالب بإصلاح الأنظمة والعباد، وأن أكون ناقداً من العيار الثقيل، أبحث عن الأخطاء لألفتَ لها الانتباه أو أسخر منها أو أكون قيِّماً على حلها؟ ودون إجابة، تركتُ سفينة أقداري تسبح بي، حتى جاءت بي إلى حيثُ أن جاءت.


قد يكون الوعي بشتى صوره، والتأثر بالمحيط، أكبر دافعين للمرء ليتحوَّل إلى "مستخطيء" (من البحث عن الأخطاء، قياساً على مستكشف الباحث عن الاكتشافات)، فالعقل يتأثر بما يمر عليه، ويتحول التأثير إلى دافع، حين تكون البيئة خصبة لأن يتشكل بها العقل الشاب، فتراه يتحول من التأثـُّر إلى الرغبة في التأثير، وهذا ما انبرى عليه قادة الثورات وأعلام التغيير في التاريخ.


فأصبحتُ وليد تجربة جديدة، مهدت للاستِخطاء حتى طوَّرته، ولأني لم أعتد أن أعمل عملاً لا يمثل شغفي، آثرتُ حينها التحول إلى المجال الصحفي، ليكون الاستخطاء سبيلي للعيش، وطريقتي في استثمار هذا الشغف الجديد الذي أضيفت إليه بعد ذلك عناصر الاستقصاء والتحقيق والتشهير، فخلقتُ لنفسي همَّاً جديداً لم يكن موجوداً، وهو "إيصال هموم الناس وتفنيد الأخطاء التي تسببت بها، حتى نرتقي بأمتنا أكثر".


ولأني لم أعتد هذا الانعكاس لروحي، كنت أتردد كثيراً حين أكون في بؤرة عاصفة الاستخطاء، فبعد أن كنتُ أتأمل تلك العاصفة وأحاول رسمها وأنا على غيمة أو شاطئ جميل، وبين فينة وأخرى، الاقتراب منها؛ أمسيتُ أعيشُ فيها ليل نهار، تواقاً للأخطاء الدسمة، التي تستحق أن تكون سبقاً صحفياً، تـُضيفُ ولا تـُنقص من مسيرتي المهنية.


ويستمر الانغماس، ويتجدد معه تعاظم توق الممارسة للاستخطاء بصفة لحظية، وهكذا مضت الليالي دون أيامها، وسارت سريعاً، سفينتي، نحو ريح صَرصَرٍ مكينة، فغابَ عني "أنا"، بسببي "أنا". لم أعتد جلد أحدٍ، فكيف بذاتي؟ لا! كله يهون، المهم الناس من حولي، المهم المعلمات وعاملي بند الأجور، المهم لائحة النشر الإلكتروني والهزاع، المهم موظفي القطاع الخاص، المهم ثورة مصر، وقوات درع الجزيرة، وكلينتون، وسِرت، ودرعا، والحرية!


تدريجياً، بدأت أنتبه! أين أنا؟ كيف بدأت هذه العاصفة؟ أين الصخرة القمرزية، والسماء المُلوَّنة، وفتاة المطر؟ صحوتُ على واقع يُرهِب الخيال، بل يذمُّه، ويصفه بالعار المقيت، بالخطيئة العُظمى؛ فالصخور سوداء، والسماء زرقاء، والفتاة جسد، وما سوى هذا سيجعلكُ تسير بعكس دوران الكرة الأرضية! إنه الواقع العربي، وواقعيته الفظة الظالمة؛ من التدوين إلى تويتر، لا شيء تغيَّر؛ ذات الهم، ذات الأوجاع، ذات الاستِخطاء، وإلا ستكون خارج العالم، فلا مكان للخيال إلا في الخيال.

تعليقات

  1. تدوينة كهذه تكفي بأن تجعلك تفكر و تحاول أن تكتب مايجعل غيرك يفكر و يتحول!
    التغيير ياصديقي يأتي من القلب أولا و بـ "أَنَتُكَ" تستطيع أن تجعل غيرك يفعل دون أن يشعر.
    بالتوفيق

    ردحذف

إرسال تعليق