والمُطبِّل مُحِق!

 

أحياناً كان يراودني: ما لي ومال الإصلاح، والخوض في الفساد والفُسَّاد، والعيش في كنفِ تغيير من حولي، فأنصرف عن تغيير ذاتي والأقربين، وتطوير حالي ومن ألمس، فما كنت سأخيب لو اهتممت بعملي، ووفرت أفضل العيش لي ولمن أعيل!

أذكر أن تهاتفنا أنا وأحد نشطاء تويتر السعوديين المعروفين، ليلة هروب المكلوم كشغري إلى ماليزيا، أذكر تماماً كيف كان ضائق النفس متسارع النَّفَس، قال لي إنه يئس من تغيير مجتمعه، واختار أن يلتفت لأسرته الصغيرة، ويبحث عن عمل حيث يعيش في أمريكا، وإنه لن يعود إلى وطنه، إلى حيث سينشغل بالآخرين عن نفسه، فقلت له: خيراً فعلت.. لا تعد.

من المهم أن نلتفت إلى إن الخيارات الواسعة في دروب الحياة، والتي يختار المرء لنفسها أحدها، فينفع ويستنفع، تجعلنا متيقنين من أن المشغول بأمر ما، مهما اعتبرناه عادياً، هو على الأقل مشغول بكف نفسه عن أن تنشغل بالآخرين أو أن تظلمهم أو أن تكون عالة عليهم، وهذا أقل المأمول، فلا فرصة بيننا من أن نتطابق أو نتساوى، فالتنوع فضيلة، على أن لا ينتهي بنا هذا التنوع إلى التصادم، فيتحول إلى غير ذلك.

تخيلت مرة! ما الذي يحدو طبيباً ما إلى اختيار تخصص كالبواسير؟ ما الذي جذبه لأن يُطبب هذه المنطقة من جسم الإنسان، وأغراه إليها؟ ليس هناك سبب إلا لأننا متنوعين متخالفين، فليس هناك ما يجبر الطبيب على أن يلتحق بتخصص ما سوى رغبته، وكذا بقية مناحي الحياة، فالمهندس محق، والمحامي محق، والطباخ محق، والمذيع محق، وحين نستوعب هذا ونجله، سنتخطاه إلى دوائر أعم، فنقول إن الناشط محق، والمطبل محق، والإسلامي محق، والليبرالي محق، فهكذا تُجبَل العقول، وتُنتقى القناعات، وترسخ الفِطَر، ومن حق كل شخص أن يختار ويدلو، وليس من حقه التصادم، وإجبار المخالفين على فطرته وقناعاته.

"الحق واحد"، فهو لا يحتاج للاستعداء والتخاصم والصراخ لأن نثبته، فالحق لو كان حقاً، سيُثبت نفسه بمقوماته ومزاياه، وسيتحلق حوله العقلاء، ويفطن له ذوي الألباب، ولو بعد حين؛ فمتى ما مورس الإجبار على الحق، تحول إلى باطل، فأنفته النفس، وتململت من وقعه وواقعه، وبحثت عن حق آخر لا يستقوي به أحد عليها، فتختاره، حتى يثبُت لها غيره فتلحق به.

 

تعليقات