المشغول لا يُشغل بالعولمة




قبل عدة سنوات، قرأتُ استناداً لبعض النظريات الفلسفية، نظرية مُبسطة نعتَها الدكتور غازي القصيبي في كتابه "سبعة" بالانتقائية, وكان منطق النظرية يأتي من تحليل ما نواجهه في حياتنا اليومية ضمن طريقة منهجية سهلة ممتنعة واضحة. وكان نصّ النظرية: (كل الفلاسفة على حق, وكل الفلاسفة على باطل).

واستدراكاً لأمرها, ومن زاوية ثانية، وجدتُ أن الربط بينها وبين مصطلح العولمة يُيسّر تعريفها وتسويرها والتمكن من أغوارها وتحريرها. التعريفات للعولمة باتت سهاماً نراها كل يوم بلون مختلف. هناك امتعاضات، وهناك خوفٌ مِن تكهنات، ومسيرات عظيمة هائلة باتت تغير مِن كل جانب على المُوَالي مِن حُكومات والمنظمات، وتنهش كل اجتماع لنصرتها، أو مؤتمر لتعليم طريقها. بالطبع نستثني من كل هذا الدول العربية المشغولة دوماً .. فالمشغول لا يُشغل!

في الحقيقة العولمة هيَ الانتقائية، والانتقائية هيَ العولمة. ومن مفاد العولمة ربما ستتضح الرؤية أكثر. إليكم مثال الليدي ديانا. فوفاتها شكّلت لديَ قمة العولمة (أو الانتقائية) بتمثيلٍ ما له مثيل! كيف؟ امرأة إنجليزية أحبّت شاباً مصرياً، ولقيا مصرعهما سوياً في نفق فرنسي، مهندسوه سويديون، بينما كانا في سيارة ألمانية، محركها مصنوع في هولندا، ويقودها رجل بلجيكي، كان سكراناً لشعر رأسه بعد أن تعاطى ويسكي اسكتلندياً، وكانت سيارتهم مُطاردة من قِبل مصوّرين إيطاليين، يمتطون دراجات نارية يابانية، وبعد الحادث قام طبيب أمريكي بإجراء الكشف على ديانا وصاحبها الفايد مُستخدماً عقاقير برازيلية. وفوق هذا كلّه، فقد زوّدني بهذه الحكاية كاتب سوداني بعد أن جمعها من عدة مصادر لدول عدة، مُستخدماً تكنولوجيا سرقتها بيل جيتس الأمريكية من اليابانيين!

المثال واضح، فاستجماع كلّ هذه الدول العالمية في حادثة واحدة هوَ قمة العولمة، المزج بين الصناعات، والحضارات، والتعاملات. بل يتعدّى الأمر هذا الحد حالياً ليصل بنا إلى المزج في اللغات، والتحيّات، بل إلى (باي) عند انتهاء لقاءاتنا!

إنها عدوى العَرَب العتيقة، الانتقاء! السائقون من باكستان، والمُربيات من الفلبين، والطباخون من إيطاليا، والشغالات من إندونيسيا، والورق من تركيا، والأقلام من إسبانيا، والطغاة من الداخل. إنه تعزيرٌ لا تحكمه أية قوانين. إنه البحث عن الذات في شعوب أخرى وجدت ذواتها، وأفضت علينا بعولمة ما تملك. فببعض الحيلة، عولمت مُقتنياتها في متاحفنا، وجعلت منا عرباً نلعن العولمة (وأمريكا تحديداً) في نشرات الأخبار وأمام القُوّاد، ونغازلها طوال اليوم بكل ما أعطانا ربي من وسامة.

لا أدعي البتة أنه يجب علينا أن ننزوي إلى أنفسنا، ونتجرّد إلى ما نملك. فالسباق الذي تشترك به كل دول العالم لا يرحم المتضعضين والمتخلفين، ولكن في الوقت ذاته يجب أن نصحو على حقيقة انبهارنا بما لم نستطع استجداءَهُ، ولنا أن نتخيل حياة دون حضارة العولمة المجذومة. لا إفراط ولا تفريط، لا تقوقع ولا تسطّح، لا نفاق ولا زهد، هذا الواقع، وما أجمل من براهين الواقع.

المناهضين للعولمة هم الطبقة البسيطة، والتي كانت تسمى في ما مضى الطبقة العاملة. الطبقة التي تحيا حياة التسليم بالأمور قبل وقوعها، والتفاخر بالأمور بعد وقوعها. والعولمة بتيّارها الجامح، أفنت هذه الطبقة – بمساعدة طغاة الداخل – وأجبرتها على الواقع الجديد المريب، طبقتان فقط، ولا ثالث أو نصف ثاني لهما. الطبقة الأستقراطية التي تعيش العولمة وانتقاءاتها بالطول والعرض، والطبقة الدُنيا التي ترفض العولمة، وإن ظفرت بها رغما عنها، تجدها تتحداها بالإيمان والتسليم.

أسباب المحاربة لا مجال لحصرها، ولكن لسبب واحد رئيس فقط، نستطيع الحكم بكل عقلانية؛ فإما أن نحيا حياة أسطورة من تقذفه عجلة الزمن إلى عصر يفوق عصره بعدة مراحل، وإما أن نريح عقولنا من التفكير بأمر العولمة هذا… ونحياها دون اكتراث أو مبالاة.

حيفي عليكِ يا انتقائية القصيبي. ولرُبّ عولمة أربا من (عربنة) منهمكة بالقاع المتشابك الذي لا زالت تعيشه.

تعليقات

  1. مجهول: في هذه المقالة أدخلتنا الى العولمة من باب وأخرجتنا من آخر لأننا مازلنا في سبات عميق ، فقضايا العالم تمر فقط كالأحلام نتحدث عناها لدقائق ثم نلهو بعدها طويلا ،،،، تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق