لنكن عقلانيين



أثارت حفيظتي قضية المتعاطين للكولونيا المحلية الصنع في المدينة المنورة والطائف، الذين بلغ عدد وفياتهم للآن 14 وعدد المصابين يُقدّر بالعشرات. وعلى إثر ذلك تقرر سحب كل ما في الأسواق من هذه الكولونيا، وقيل أيضاً تقرر تغريم صاحب مصنعها!!

مع أن غايتهم كانت أن يسكروا ويذهبوا بعقولهم، والغاية الذميمة تبرر الوسيلة الدميمة، إلا أني لا أعتب إلا على طريقة علاج المسؤولين للقضية ومثيلاتها من القضايا! فهل يُعقل أن نمنع كل العطور لأنها في الغالب كحولية؟ وماذا عن الغراء اللاصق وبعض الأدوية المخدِّرة؟

الطفل الذي هوَ طفل إن حرمته من لعبته لأنها تضيّع وقته، وأصدقاءه لأنك لا تثق فيهم، و"جِلّ الشعر" لأن فيه تشبها بالغربيين والصُيَّع (قبل يومين كنت في إحدى الصيدليات، وأخذت أراقب عن تواريٍ مراهقاً كان يبكي أباه حتى يشتري له "جـِلّ للشعر" ليضعه مثل أصدقائه في المدرسة، وأبوه كان يردد بصوتٍ عالٍ بأن "جـِلّ الشعر" خاص بالصُيَّع وأرباب المشاكل وعاقّي أسرهم ومجتمعاتهم). كنت أقول بأن الطفل إن حرمته من كل ذي حدّين، ولم تبرر له بطريقة يقتنع بها بأن عليه أن يستخدم الأشياء لما وضعت له، وأن يَتحرّى الاقتداء بالطيبين المثاليين بعدم فعله لأمور كان ينوي فعلها؛ لن تردعه كل قيود الحرمان، وستدرك أنه يفعل ما لا يفعله أمامكَ مِن ورائك.

وخير شاهدٍ على ذلك الأسر التي تحرم أبناءها من ميلودي ومزيكا وستار أكاديمي بعد أن كانت مسموحة مطلقاً، لتكتشف بعد فترة قصيرة بدء تأخر أبنائهم عند الجيران والأقارب، ويتضح بعد هذا أنهم يفعلون ذلك ليعوضوا النقص الذي حدث في نهمهم الفضولي أو ربما للعِناد أو أحياناً يكون دافعهم هو استيضاح سبب المنع الحقيقي. فلم يتفاهم معهم أحد (كأذكياء عقلاء) حول السلبيات والأسباب، بل كان الأمر كما أن يَحرم الراعي أغنامه (الأغبياء المجانين) من أكل أوراق الجرائد والعلب الفارغة.

هذا الطفل! فكيف بمجتمعٍ غالبه من فئة الشباب؟
في السابق كانت الأطباق الفضائية محرمة، وكذلك جوالات الكاميرا لا تجوز، بحجة الاستخدام السلبي، وللآن يعتبر معظم موظفي الجمارك في مراكز التفتيش أن كل ما يشبه الأسطوانات الممغنطة (السي دي) يعتبر دخيلاً يجب مصادرته حتى لو كان يحتوي على محاضرات للشيخ كشك. هكذا رُبّينا في مجتمعٍ يعتبر كل جديد محرّم، حتى تزداد الضغوط، ويزداد الاستيراد السلبي، وتزداد معدلات الانتشار في السوق السوداء، فيسمح بالشيء مرفقاً بعريضة من الجزاءات والتهديدات، ثم وبالتدريج يلغيها جزاءاً جزاءاً وتهديداً تهديداً ويلتفت لجديدٍ آخر يحارب ويضارب لتطويقه ومنعه.

أنا لا أقول لنسمح بكل شيء، بل لنأخذ الأمر ببساطة أكثر! لنمنع كل ما يثبُت أنه مُضِر بالصحة والدين والعقل، ولنسمح ببقية الأشياء مع الإبقاء على جزاءات رادعة على سوء الاستخدام.

إذا أردنا تحريم كل ما هوَ سلاح ذو حدين، سنتخلف ونضيع، وسنلغي أول ما نلغي التلفونات والجوالات والتلفيزيونات والسكاكين والمشارط والسيارات والطائرات وأغطية علب البيبسي والصلصا والألعاب القابلة للبلع، بل حتى الأدوية والواقيات الذكرية والفياجرا وربما كل المنشطات!

ولكن لنكن عقلانيين!
مرة سألت أحد المدراء في الهيئة العليا للسياحة السؤال التالي: لو خيّرنا نسبة كبيرة من الشباب السعودي بين أن نذهب به في رحلة لمدة شهر في أنحاء خضرة أبها وبهاء الطائف وسحر النماص وزرقة بحر الحريضة، وبين أن نعطيه تذكرة سفر لمدة يومين إلى القاهرة، ماذا سيختار؟ فأجاب تلقائياً: سيختار التذكرة. فسألته: لماذا.. بصراحة؟ فقال: لأنهم يبحثون أكثر ما يبحثون عن الممنوعات، وجُل المسموح هنا لا يفي بالغرض. انتهى كلامه..

.. وكلامي.

تعليقات

  1. مجهول قال:
    يونيو 5th, 2006 at 5 يونيو 2006 12:14 م

    للممنوع هنا لذة خاصة يجب أن تمارس حتى لو كنا ننكرها داخليا هكذا تربى الجميع سياسة العشق لما هو محجوب وسياسة التجاهل لماهو متاح // هكذا تبلورت شخصياتنا فما العمل ؟

    ردحذف

إرسال تعليق