العقل البربري



للاختلاف أدبيات، وحين يسع قلب الرجل أن يسمع لرأي الآخر دون أن تختفي الابتسامة من على شفتيه، فهو قد وصل إلى مرحلة متقدمة في فهم "ثقافة الاختلاف". والفرق حتماً في المدى، فالبعض يقبل كل شيء إلا الخلاف المذهبي، والآخر القبلي، والبعض يسمح لك نقاشه في كل أمر إلا أموراً عقدية، تمنُّعاً منه في التأثير على قوة إيمانه بما يعتقد به.

لا ريب أنه حين يستمر المرء في تحدي فكرة عدم تقبل الذين يختلف معهم، سينفتح على ثقافات أخرى، ويكبر عقله ليعلم أن ما أوتيه لم يكن كل شيء، ولهذا تغنَّى المثقفون بالسفر، وجعلوا له مكانة مهمة، فالسفر كما الكتاب، فأنت حين تسافر، تقرأ ما تُسفر عنه الحضارات والثقافات والأوجه، وتبدأ تلقائياً بمقارنة ما عندك بما عندهم، وتخلُص إلى أن الكون رحب واسع، قد وسعك ووسعهم دون مشاحة.

قارن في عقلك بين رجل لم يغادر قريته، بمفهومها الحدودي والأنامي والثقافي، وبين آخر جاب أنحاء البسيطة وانصهر مع كل أرض يطأها، وضع الرجلين في غرفة بيضاء، واعطِ كل واحدٍ منهما قلماً أسود. أتظن أن القروي سيبدع كما المِسفار في الجنوح الخيالي، والانسلاخ عن المعتاد، واستخدام خطوط أكثر إبداعاً وغرابة؟ أظن حتى اليقين أن كثير السفر سيرجح، بخليطه الفكري، وإمعانه في كل لوحة يراها، وتماوجٍ رَكِبَه، وتقليدٍ شعبي وقف عنده وشربه هانئاً.

إن كثرة ما يراه ويضطلعُ به المرء ويتدارسه، يحفز "التزاوج الفكري"، فالفكرة في العقل تبقى وحيدة إن لم تُنكَح بفكرة أخرى، وحينها تتوالد الأفكار وتتكاثر كما الأحياء، وهكذا تُرزقُ العقول وتتزن أطرافها، وإلا ستبقى رهينة "القرية"، وتلك الأفكار أحادية القطب، والتي تنتظر مدى الحياة أفكاراً أخرى لتطأها أو توطأ بها، فإما أن يتقبلها صاحبها ويسمح بالمعاشرة فور تكوُّن الفرصة، أو يستمر عقله بربرياً متوحشاً، يقاتل دون ما جُبِلَ عليه، فلا يقبل فكرة أن يرى السماء بغير لونها الأزرق، أو الوردة بالأسود.

تعليقات

  1. في هذا الزمان صعب جدا أن تهرب من الواقع
    نحن نعيش في ثقافه الزمان لا ثقافة المكان
    مع التطور والانفتاح على العالم عبر الانترنت وغيره من الوسائل

    حدثت لي مره أتى أستاذ دين قال :اذا أتت شكوك وأسئله
    قل أمنت بالله (وكأنه يقول لي لا تسأل) أوقفت الشرح وقلت :لماذا لا نسأل لماذا لا نبحث لاسئله عن هذه الشكوك ,كان غاضبا وقال :هل للسؤال من خلق الله إجابه
    قلت : نعم ,هو سؤال بني على باطل فما يحدث للخالق لا يحدث للمخلوق ,وذكرت له مثل النجار والكرسي ,فالكرسي جماد ,والنجار حي
    ولكن لحسن حظه أسعفه جرس الحصه وخرج غاضبا .

    ردحذف
  2. تخيل حديقة كلها ورود حمراء،للوهلة الأولى ستبدو جميلة،لكن ما إن تألفها العين و تتعود رؤيتها حتى تغدو رتيبة و مملة ،فذلك مثل الحياة كلما تنوعت فيها الأفكار و الآراء غدت روضة غناء.فكما أن الوردة الحمراء لا يبرز جمالها و لا يكتمل إلا إذا جاورتها وردة صفراء و أخرى بنفسجية فالفكر هو الآخر لا يبرز ولا يمحص إلا بنقيضه و كما قيل فبالأضداد تتمايز الأشياء،على أن هذا الإختلاف لابد له من ضوابط تقننه لأن الهدف منه تطوير الذات و إنفتاح العقل على الآخر.شكرا لك.فالة

    ردحذف

إرسال تعليق