حربُ اللاوعي!



في صغري، عُرِّف لي الإنجاز على أنه: تحقيق ما يعود بالنفع على نفسك و/أو محيطك و/أو أمتك و/أو البشرية.

ربما لم يكن التعريف بهذه الدقة، ولكن كان هذا تصوِّري عن هذا المصطلح العظيم حتى وقت قريب.

وبديهياً، ووفقاً لتبايُن الطِّباع، تختلف النظرة إلى الإنجاز، وعلى ما يُطلق عليه فعلاً إنجاز. ربما يشعر المطرب أنه أنجز في نهاية الحفلة، ولكن هذا لا يُعد إنجازاً عند إمام المسجد مثلاً، والأمثلة لا تنتهي.

وقد يشعر المدير أن الموظف أنجز إن أتم مهامه بإتقان، ولكن الموظف ليس بالضرورة أن يشعر أنه أنجز إن أتم مهامه. ربما هو ليس بمقتنع بهذه المهام أصلاً، أو عنده تحفظ على مجال عمله كُليَّة، ويحلم بعمل ينجز - وربما يُبدع - فيه في مكان آخر.

إن الإنجاز مرتبط بالدرجة الأولى بإشباع الرغبة، ولأن إشباع الرغبة مطلب غريزي، فالإنجاز كذلك. ومن هنا يأتي الشعور السيء الذي ينتابنا حين لا ننجز.. أو لا نشبع رغباتنا بمعنى أدق.

لذا، ترى إن تمعنت أن أكثر ما يُؤثر في السجين هو ليس الحرمان من الحرية المطلقة، بل الحرمان من حرية الإنجاز، إنجاز إشباع الرغبات على اختلافها، قد يكون لقاء من يحب من إحداها. 

الشاب الذي يُعاني من البطالة، والمتقاعد، والذي يعمل في وظيفة لا تشبع رغباته، كلهم يفتقدون لمعنى الإنجاز الآني في حياتهم، فهم - على الأغلب - إما يُعزون أنفسهم بإنجازاتهم السابقة أو آمالهم اللاحقة، وإما يحيون تحت وطأة ضغط غرائزهم المضطهدة.

وليس غريباً أن الموظف الذي يوقع حضوره، ثم يغادر ليجلس مع أحبابه حتى نهاية الدوام، تجده سعيداً في نهاية اليوم، لأنه أشبع رغبة ذاتية عنده، ربما ليست إنجازاً بالنسبة للكثيرين، ولكنه أنجز بالنسبة لنفسه، وارتسمت عليه ملامح هذا الإنجاز فعلياً بشعور الرضى الذي غمره.

إن النجاح الذي يُحققه الإنسان - على أي صعيد - يعود الفضل فيه إلى الصوت الداخلي الذي يلح علينا دوماً بتلبية الغرائز، فغريزة فينا أن نعمر الأرض، وعمارتها تحتم علينا أن نتحلى بصفات الناجحين، ولولا هذا الإلحاح، لما تمكن الإنسان من بلوغ هذه الدرجة من التقدم الذي نعيشه مقارنة بالعصر الحجري.

ولذا تجد أن الظلم أو الجُرم أو سوء الخلق ليس من الغرائز التي بها تعمُر الأرض، وبالتالي هي ليست من صفات الناجحين، بل هي مكتسبات مصدرها اللاوعي. واللاوعي يبرز بقوة حين نغضب أو نحقد أو ننتقم، فيشوه غرائزنا، ولا يُظهر مِنا إلا أسوأ ما كان يُتوقع.

أنا لا أؤمن أن في كل شخص جانب حسن وآخر سيء، بل إن كل شخص حسن غريزياً، حتى يدخل في طور سيطرة اللاوعي، والمهم أن تخرج من هذا الطور في أسرع وقت، إلا أن البعض بيننا يعيش أغلب وقته تحت سيطرة اللاوعي، فتراه بعيد عن الطبيعة وعن حقيقته التي خُلِق عليها

بالنسبة لي، إن الإنجاز الحقيقي يكمن في القرب من اللاوعي، والسيطرة عليه، فاللاوعي مبنيٌّ على تراكمات، يُولد أبيض نقياً، ومع الوقت يُسجِّل كل ما نحس ونشعر به، ويحاول أن يتحكم بنا، ويُحدِّد لنا رغباتنا ويوهمنا بأنها غرائز وإنجازات يجب أن تتحقق، بينما نحن مَن يجب أن يُقرر، لأننا على الأقل.. مَن يملك العقل.

تعليقات