2012-05-11

حين نُقلِّد ونستدل


أحرص غالباً على عدم الاستدلال بنوعيه المباشر وغير المباشر، وخصوصاً عندما أكتب في مدوَّنتي، حيث أنا حر أكثر من طير في سماء، وسمكة في دأماء. ومُبتغاي حين لا أستدل له منحيين، الأول يتعلق في أن الذي أستدل بأقواله وأفعاله من البشر له رأيه، ولست هنا لأكرر آراء غيري لأبرر طريقة عمل عقلي، ولا لأمنح فكرتي عنهم الجواز والصدق، فالأفكار كالأصداف على رمل الشاطيء، نتخير منها ما يلفتنا، ومن حقنا تجاهل الباقي.

المنحى الآخر يتعلق بإعمال التفكُّر، وترويض العقل ليتجاوز مرحلة التكرار والإعادة إلى مرحلة الإفادة وفق التراكم والتحليل، وهذا الأمر يبرز بكثرة الممارسة، وتكرار الاختبار. فحين يقولون إن العقل يحتاج إلى رياضة لتقوى قدرته، وتزيد الحكمة فيما يُخرجه، هم قصدوا - بظني - إشغاله بالتأمل لا الحفظ، وبالتحليل لا التقليد، وإلا لما برز أناس على مر التاريخ، تستدل العامة بما أنتجوه، وتصطلي بفريد سبقهم في فعلهم وما قالوه.

وإني حين أسير في مسار عدم الاستدلال بالقياس أو التمثيل، لا أعني بهذا الاستغناء عما أفادني به غيري ممن قرأت لهم ما أبدعوه أو صقلت بنهجهم الذي أذاعوه، ولكن الأمر لا يتجاوز الاقتباس المعنوي، ليزيد عندي مخزون الخيارات والمعطيات، فييسر علي هذا الإرجاء والتحليل؛ فندرة الخيارات مصيبة، كما أن تعمد الاختيار من بين هذه الخيارات مصيبة أيضاً، فنحن لسنا محدودين بحدود غيرنا، ووجودنا يبرز إن أثبتنا هذا وبرهنَّاه. 

وكما أن التقيُّد بما سار عليه الغير قصور، فإن تجاوز مرحلة التقليد إلى التقديس يفضح هذا القصور، ويُنمِّي عيب النظرة الوحيدة للأمور، وبالأخص إذا توجه هذا التقديس إلى شخص ما يعجبك مساره، وتغريك أقواله وفِعالُه، فتظن أن كل ما يصدر منه محاطٌ بهالة الحق والإصابة.

وعلى النقيض، ستجد نفسك تلقائياً تكره كل ما يصدر عن شخص لم يعجبك في يوم نهجه، فتغرق في التصنيف حتى لو لم تتعمده، وتزج به في دائرة تكرهها، فتكره وتؤوِّل عنه كل شيء، حتى لو قال يوماً ما قاله الذين في دائرتك، التي تدافع عنها بضراوة الضباع.

يثبت اليقين عندي دائماً بأننا لم نستثر أنفسنا كما يجب، حين أرى الجديد من الأفكار والاختراعات تنهمل على عالمنا يومياً، وأجزم أن هؤلاء المبدعين ما كانوا ليبدعوا، لو أشغلهم التقليد، وكان همهم الاستدلال.

2012-05-04

لماذا هذا العزوف عن الأخبار؟

يبدو أن العامة ملَّت من الجدِّية! وملَّت من القضية الفلسطينية والأزمات العراقية والثورات العربية والتفجيرات الأفغانية. لنكن مُحقِّين! طالعوا الأخبار الأكثر قراءة إن شئتم في أهم المواقع الإخبارية، وحجم الإقبال المهول الملموس على البرامج الفنية!

حسناً! يبدو أني سجعتُ قليلاً عن غير قصد، ولكني أعني ما أقول! فلم أشهد في حياتي حجم تفاعل على صفحات فيسبوك كما شاهدت على صفحتي "أراب آيدل" و"أرابز قت تالنت"! الصورة أو مقطع الفيديو يوضعان، فتجد في دقائق آلاف المعجبين والمعلقين، بينما صفحتي قناتي الجزيرة والعربية تناضلان وتتقاتلان من أجل المعجبين!

الحقيقة التي لازلنا نُداريها هي أن زمن "الجد خارج إطار الإجبار" انتهى، وبدأ الجمهور يبحث عن الطرفة والفكاهة والقضايا التي تعجبه ويهتم لها، في ظل صعوبة الحياة وتعدد أساليب استقاء المعلومات والأخبار؛ فلم تعد القومية العربية هماً ولا الوحدة الإسلامية شاغلاً. ببساطة لأن الناس ملَّت، وطفح عندها كيل الوعود والآمال الفضفاضة، والنقاشات في التصنيفات الفكرية والدينية والمذهبية التي تبدأ ولا تنتهي، فأصبحت دائرة اهتماماتها تضيق شيئاً فشيئاً حتى بدت شخصية جداً!

عندما شاهدت خطاب الرئيس باراك أوباما الأخير، الذي ألقاه في اجتماع صحفيي البيت الأبيض بواشنطن، وبالرغم أن أوباما لم يفعل حتى الآن ما أحبه من أجله، أو أكرهه من أجله، على الصعيد الرسمي؛ أحببت الرجل لأنه أضحكني كثيراً، لدرجة أني شعرت أنه لو لم يكن رئيساً لوددت كثيراً أن يكون "ستاند أب كوميدي"! ربما أوباما غافلني بدخول قلبي لحظتها، ولكنه يستحق ذلك، وحينها تساءلت! لماذا راقني جداً الآن، ولهذه الدرجة؟!

تذكرت وقتها خطابات الملك عبدالله، ملك السعودية حفظه الله، العفوية البسيطة، فكثيرون أحبوه من خلالها، وأخذوا لوقت يرددون ما ورد فيها من تلقائية وأريحية، فانسابت إلى دواخلهم، لأنها كانت من بشر إلى بشر، ومن القلب إلى القلب، فالتصنُّع قد يكسب هيبة، والتكلُّف قد يوهب خوفاً، ولكن أن تشعر الذي أمامك شخص عادي مثلك مثله، وقد كنت تحسبه غير ذلك، سيورث تعاطفاً حقيقياً وحباً صادقاً عن غير قصد.

ربما أصبحت الأخبار الجادة الرتيبة حكراً على نخبة مهتمة، لسبب أو لآخر، ولكن ماذا عن السواد الباقي؟ ماذا يُخطط له صُنَّاع الإعلام ورُوَّاده؟ هل الجيل القادم في الحسبان؟ أم أنه خارج المعادلة، بحكم الأجندات والأهداف؟

القادم لا محالة هو عصر الأون لاين، فموقع يوتيوب تفوَّق بمراحل على قنوات التلفزيون من حيث المشاهدة، فالعامة لم تعد تنتظر أن يُملي عليها أحدهم ماذا تشاهد، ومتى! بل أصبحت قادرة على حسم هذه الوصاية، ومقتنعة تماماً بأن ما فاتها على قنوات التلفزيون ستشاهده على يوتيوب لاحقاً، على الأقل إذا كان مُهمّاً، وإلا فهو لا يستحق المشاهدة.

بالعودة للسؤال الشاغل! لماذا هذا العزوف عن الأخبار؟ برأيي لأن البدائل المتنوعة متوفرة ويسيرة، ولأن زمن الصوت العالي في الإعلام انتهى، وبدأ مكانه صوت "ما هو اهتمامك؟ وكيف أخفف عنك صعوبة ما تواجه في يومياتك حياتك؟".

 

بلاغة الصمت تهز العالم

في تلك الحقبة الرمادية من مطلع القرن العشرين، حين كانت السينما لا تزال تحبو في مهدها الصامت، وكانت الصورة لغة كونية لا تحتاج إلى ترجمان يف...