حين نُقلِّد ونستدل


أحرص غالباً على عدم الاستدلال بنوعيه المباشر وغير المباشر، وخصوصاً عندما أكتب في مدوَّنتي، حيث أنا حر أكثر من طير في سماء، وسمكة في دأماء. ومُبتغاي حين لا أستدل له منحيين، الأول يتعلق في أن الذي أستدل بأقواله وأفعاله من البشر له رأيه، ولست هنا لأكرر آراء غيري لأبرر طريقة عمل عقلي، ولا لأمنح فكرتي عنهم الجواز والصدق، فالأفكار كالأصداف على رمل الشاطيء، نتخير منها ما يلفتنا، ومن حقنا تجاهل الباقي.

المنحى الآخر يتعلق بإعمال التفكُّر، وترويض العقل ليتجاوز مرحلة التكرار والإعادة إلى مرحلة الإفادة وفق التراكم والتحليل، وهذا الأمر يبرز بكثرة الممارسة، وتكرار الاختبار. فحين يقولون إن العقل يحتاج إلى رياضة لتقوى قدرته، وتزيد الحكمة فيما يُخرجه، هم قصدوا - بظني - إشغاله بالتأمل لا الحفظ، وبالتحليل لا التقليد، وإلا لما برز أناس على مر التاريخ، تستدل العامة بما أنتجوه، وتصطلي بفريد سبقهم في فعلهم وما قالوه.

وإني حين أسير في مسار عدم الاستدلال بالقياس أو التمثيل، لا أعني بهذا الاستغناء عما أفادني به غيري ممن قرأت لهم ما أبدعوه أو صقلت بنهجهم الذي أذاعوه، ولكن الأمر لا يتجاوز الاقتباس المعنوي، ليزيد عندي مخزون الخيارات والمعطيات، فييسر علي هذا الإرجاء والتحليل؛ فندرة الخيارات مصيبة، كما أن تعمد الاختيار من بين هذه الخيارات مصيبة أيضاً، فنحن لسنا محدودين بحدود غيرنا، ووجودنا يبرز إن أثبتنا هذا وبرهنَّاه. 

وكما أن التقيُّد بما سار عليه الغير قصور، فإن تجاوز مرحلة التقليد إلى التقديس يفضح هذا القصور، ويُنمِّي عيب النظرة الوحيدة للأمور، وبالأخص إذا توجه هذا التقديس إلى شخص ما يعجبك مساره، وتغريك أقواله وفِعالُه، فتظن أن كل ما يصدر منه محاطٌ بهالة الحق والإصابة.

وعلى النقيض، ستجد نفسك تلقائياً تكره كل ما يصدر عن شخص لم يعجبك في يوم نهجه، فتغرق في التصنيف حتى لو لم تتعمده، وتزج به في دائرة تكرهها، فتكره وتؤوِّل عنه كل شيء، حتى لو قال يوماً ما قاله الذين في دائرتك، التي تدافع عنها بضراوة الضباع.

يثبت اليقين عندي دائماً بأننا لم نستثر أنفسنا كما يجب، حين أرى الجديد من الأفكار والاختراعات تنهمل على عالمنا يومياً، وأجزم أن هؤلاء المبدعين ما كانوا ليبدعوا، لو أشغلهم التقليد، وكان همهم الاستدلال.

تعليقات