2011-03-30

الاسْتِخـْطَاء!


قبل ثلاث سنوات، قد تزيد أو تنقص قليلاً، أذكر أني دُعيت إلى اجتماع للمدونين السعوديين، وحظيتُ بالتعرف والاقتراب أكثر من مدوِّنين كِبار، شرُفت بهم ومازلت أستفيد من بحورهم. وكان الاجتماع موجَّهاً - بصورة ما - إلى تعظيم دور التدوين، وكيف أنه أثر في الرأي العام في عدة دول عربية وغربية، وتخلل ذلك دعوة للشعور بعظم الدور الذي يحققه المدوِّن على صعيد إصلاح وطنه وأمته التي ينتمي إليها.


لقد أصاب ما سمعته ورأيته في تلك السويعات شطراً في عقلي، وأنساني أني ناهِجُ أدبٍ وشُويعِر ومدعي تأملٍ وفلسفة، وصيَّرني إلى السؤال الثقيل: هل ما كنتُ أفعله في مدونتي صحيح؟ هل يجب حين أكون مدوِّناً حقاً أن أطالب بإصلاح الأنظمة والعباد، وأن أكون ناقداً من العيار الثقيل، أبحث عن الأخطاء لألفتَ لها الانتباه أو أسخر منها أو أكون قيِّماً على حلها؟ ودون إجابة، تركتُ سفينة أقداري تسبح بي، حتى جاءت بي إلى حيثُ أن جاءت.


قد يكون الوعي بشتى صوره، والتأثر بالمحيط، أكبر دافعين للمرء ليتحوَّل إلى "مستخطيء" (من البحث عن الأخطاء، قياساً على مستكشف الباحث عن الاكتشافات)، فالعقل يتأثر بما يمر عليه، ويتحول التأثير إلى دافع، حين تكون البيئة خصبة لأن يتشكل بها العقل الشاب، فتراه يتحول من التأثـُّر إلى الرغبة في التأثير، وهذا ما انبرى عليه قادة الثورات وأعلام التغيير في التاريخ.


فأصبحتُ وليد تجربة جديدة، مهدت للاستِخطاء حتى طوَّرته، ولأني لم أعتد أن أعمل عملاً لا يمثل شغفي، آثرتُ حينها التحول إلى المجال الصحفي، ليكون الاستخطاء سبيلي للعيش، وطريقتي في استثمار هذا الشغف الجديد الذي أضيفت إليه بعد ذلك عناصر الاستقصاء والتحقيق والتشهير، فخلقتُ لنفسي همَّاً جديداً لم يكن موجوداً، وهو "إيصال هموم الناس وتفنيد الأخطاء التي تسببت بها، حتى نرتقي بأمتنا أكثر".


ولأني لم أعتد هذا الانعكاس لروحي، كنت أتردد كثيراً حين أكون في بؤرة عاصفة الاستخطاء، فبعد أن كنتُ أتأمل تلك العاصفة وأحاول رسمها وأنا على غيمة أو شاطئ جميل، وبين فينة وأخرى، الاقتراب منها؛ أمسيتُ أعيشُ فيها ليل نهار، تواقاً للأخطاء الدسمة، التي تستحق أن تكون سبقاً صحفياً، تـُضيفُ ولا تـُنقص من مسيرتي المهنية.


ويستمر الانغماس، ويتجدد معه تعاظم توق الممارسة للاستخطاء بصفة لحظية، وهكذا مضت الليالي دون أيامها، وسارت سريعاً، سفينتي، نحو ريح صَرصَرٍ مكينة، فغابَ عني "أنا"، بسببي "أنا". لم أعتد جلد أحدٍ، فكيف بذاتي؟ لا! كله يهون، المهم الناس من حولي، المهم المعلمات وعاملي بند الأجور، المهم لائحة النشر الإلكتروني والهزاع، المهم موظفي القطاع الخاص، المهم ثورة مصر، وقوات درع الجزيرة، وكلينتون، وسِرت، ودرعا، والحرية!


تدريجياً، بدأت أنتبه! أين أنا؟ كيف بدأت هذه العاصفة؟ أين الصخرة القمرزية، والسماء المُلوَّنة، وفتاة المطر؟ صحوتُ على واقع يُرهِب الخيال، بل يذمُّه، ويصفه بالعار المقيت، بالخطيئة العُظمى؛ فالصخور سوداء، والسماء زرقاء، والفتاة جسد، وما سوى هذا سيجعلكُ تسير بعكس دوران الكرة الأرضية! إنه الواقع العربي، وواقعيته الفظة الظالمة؛ من التدوين إلى تويتر، لا شيء تغيَّر؛ ذات الهم، ذات الأوجاع، ذات الاستِخطاء، وإلا ستكون خارج العالم، فلا مكان للخيال إلا في الخيال.

2011-03-29

التدوين المُصغَّر



قل عدد نشطاء التدوين حولي، وأنا منهم، بعد أن كنتُ أكتب ما يزيد عن تدوينتين في الأسبوع، أصبح ثقيلاً على روحي أن أكتب تدوينة كل شهرين أو ربما 3 أشهر، والحقيقة أن الأسباب كثيرة ومتعددة، كثيرون يُرجئون هذا الشعور الذي ربما يشاركوني فيه إلى المشاغل التي لا تنتهي، وواقع الحال يقول أن المرء كلما كبُر، كُبرت مشاغله.


إلا أني لا أدَّعي هذا الآن، بعد أن وقفت على الحقيقة، وحللتُ السبب ودرسته وقلبته، إنه "تويتر"، ذلك الاختراع العجيب الذي يُجبرك على أن تختصر ما ترغب التعبير عنه إلى جُملة وربما كلمتين، فتخترق بـ "تدوينتك المُصغَّرة" الحُجُب والأمصار، لتصل بها إلى أعين أناسٍ ألِفت الخلاصات وعشقتها، وتزداد كل يوم تعلقاً بـ "المختصر المفيد".


وفي "تويتر" انقلبت الموازين، فكلما كانت "تدوينتك المصغرة" ممشوقة الأحرف ناهدة التعبير، كلما زاد عدد متداوليها، وبالتالي يزداد متابعيك، بخلاف التدوين في المدوَّنات الذي يحمل طابع الإسهاب والتفصيل، فالمساحة هنا كافية لأن تكتب كما تريد، بالكم الذي تريد.


ميزة أخرى يحملها "تويتر" وهي مراقبة عدد المتابعين، وبسرعة وفعالية تدفع للمزيد من الحِراك والكتابة، بخلاف المدونات العادية التي لا ترسل لك أن "فلان" قرأ تدوينتك أو بدأ بمتابعتك، رغم اجتهادات "قووقل" في ذلك عبر مدوناتها، إلا أنني لم ألتقِ للآن بعدد متابعين لمدونة يضاهي أرقام أعداد المتابعين لبعض الفعَّالين في "تويتر".


أضف إلى ذلك سرعة الإرفاق للصور والمواقع والأفلام عبر تحويلها إلى وصلات، ويُسر المشاركة والتفاعُل، لقد أوجد "تويتر" سبيلاً نضراً لأولئك الذين لا يملكون الوقت أو يخشون الكتابة أو لا يُجيدونها، فبإمكانك في "تويتر" أن تكتب بأي طريقة لتعبر عن أمر ما، ويشفع لك دائماً صغر مساحة الكتابة، وعذر المشاركة عبر الجوَّال وأنت في السيارة أو تمشي أو تجري حتى، فنادراً ما تجد أن يلومك أحد على خطأ مطبعي أو لأنك لم تراعِ أُسّاً من أسس الكتابة حين شاركت في "تويتر".


وأعود مرة بعد مرة للوم "تويتر" على اختصاره لأفكار ما كانت لتُختصر في مدونتي، إلا إن لومي يتصاغر وقد يختفي أمام فوائد عِظام، تعلمتها منه، وأخال أني لم أكن لأجنيها لولاه.

2011-03-22

كتاب "الصندوق الأسود" للمغلوث.. تأريخ جديد لِسِير مثقفين سعوديين معاصرين

جدة - محمد جمال

فتح الصندوق الأسود للطائرات ليس بالأمر الهيِّن، فكيف بصناديق البشر؟ إنها المهمة التي اختارها لنفسه الكاتب والصحافي السعودي عبدالله المغلوث، ونشر سلسلة حواراتها تباعاً في بعض الصحف، قبل أن يجمعها ويُؤلِّف حولها كتاب "الصندوق الأسود.. حكايات مثقفين سعوديين"، الصادر عن دار مدارك في يناير/ كانون الثاني 2011.

ويُرجع المغلوث في مقدمة كتابه قصة هذه الحوارات التي جمعته بجُملة من ألمع الكُتَّاب والإعلاميين والمثقفين السعوديين، إلى "الفضول" الذي اكتشف مؤخراً أنه لا يسكنه وحده، بل يقطننا أجمعين - بحسبه -، ويقول: "استوقفني الكثير من الأصدقاء ليسألوني عن خفايا زواج بدرية البشر وناصر القصبي...، وأشبعوني نقاشاً حول الثوب القصير الذي ارتداه تركي الدخيل بعد عودته من الحج...، وتحدثوا طويلاً عن رعي سليمان الهتلان للغنم الذي استهل به اللقاء، …."، إلى مفارقات جمَّة حملها إلينا عبر "الصندوق الأسود"، غاص بنا عبره إلى عوالم بيضاء نيِّرة، هي مدارس لأجيالٍ قادمة.

ناصر القصبي سألها "الزواج" عبر الهاتف

لم تكن الطالبة الجامعية - آنذاك - بدرية البشر تُدرك أن اتصالها بالمهندس الزراعي والممثل في بعض المسلسلات، ناصر القصبي، لتطلب منه يكتب لها نصاً مسرحياً لمسرحية نهاية العام الجامعي، سينتهي بسؤاله لها: "تتزوجيني؟!".

هكذا رسمت الدكتورة الجامعية والكاتبة والروائية بدرية البشر الخيوط الأولى لزواجها بالفنان الشهير ناصر القصبي، بحسب "الصندوق الأسود". واعترفت للمغلوث أنها كانت في صباها تخرج لتشتري الخبز لأسرتها، متسائلة: "لماذا كانت مهمتي أنا شراء الخبز، ولا أدري لماذا لم ترسل أمي أخي الأكبر؟ هل هو دلال وحظوة بمناسبة أنه الولد الذكر، أم أنني كنت الحائط القصير الذي تستطيع أمي قهره ليطيع أوامرها؟".

وحين سألها الكاتب عن أول قلم، أجابت البشر: "في بيتنا لا يمنحون أقلاماً، إلا الأقلام على الطريقة المصرية، خاصة وأن والداي لا يجيدان الكتابة، وأنا كنت الابنة الكبرى. جاءني أول قلم مع مشتريات طلبات المدرسة، لكنني منذ عثرت عليه لم أنفك عنه أبداً".

الهتلان وانفصاله عن "معشوقته"

أما "صندوق" تركي الدخيل فكان حافلاً، من المحاولات اليافعة الجادة للولوج إلى الصحافة، وانتهاءً ببرنامجه "إضاءات" الذي بدت باكورة حلقاته عام 2002 عبر أثير الإذاعة التي تسمى حالياً بـmbc بانوراما، ثم انتقل إلى "العربية" التلفزيونية، مستفتحاً الظهور التلفزيوني بلقاء مع وزير العمل السعودي الراحل غازي القصيبي. يقول تركي: "جئت للمايكروفون من بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة)، وأعتقد أني أضفت بخلفيتي الصحافية شيئاً. لو كنتُ مذيعاً فحسب لما أثرتُ نقعاً".

وكما كان للدخيل قصة نجاح، سبر أغوارها الكاتب في عدة فصول، كان لسليمان الهتلان قصة عشق، انتهت بانفصاله عن معشوقته التي كانت شاهدة على حجم الجهد والكفاح الذي بذله في الفترة بين 1988 1991. يقول الدكتور الهتلان عن اختفائه المفاجئ عن صفحات معشوقته صحيفة الرياض: "حاولت ألا يحدث الانفصال لكنه حدث. أدركت بعدها أنني كنت أدفن نفسي في نفق يدفنك ولا يمكنه أن يقودك إلى نقطة ضوء".

وبسؤال كبير بحجم إبداعها، قابل الكاتب الروائية ليلى الجهني، وفي صدره: "كيف استطاعت السعودية ليلى أن تبني هذه العلاقة الخاصة مع الحرف، وتكتب بهذه الجودة، ما القصة؟". وجاءت الإجابات تترى، تتماوج مع دفة الحوار، بعفوية خلاقة. انهمرت ليلى: "تراكمت لديَّ دفاتر ملأى بالخربشات، وكنتُ مقتنعة أن ليس في ما أكتبه رائحة أدب عظيم، ولم يزعجني ذلك". وتروي: "احتجتُ إلى ثلاثة أعوام من الكتابة فالتمزيق فالندم، قبل أن أعي أنني أمزق أوراقي فإنما هي جزء من حياتي".

أسلوب جديد

سبح بنا المغلوث إلى "صندوقه الأسود"، الذي علق على اسمه الصحافي عمر المضواحي في "تويتر" مداعباً :"ليته أسماه الصندوق الأبيض، مع تفهمي له"، وانتقى لنا أصداف عدة، بزغ لنا من خلالها أحمد الملا، وسلطان البازعي وعبده خال، وليلى الجهني، وبدرية البشر، وتركي الدخيل، وسليمان الهتلان، ومحمد العلي، ونداء أبو علي.

لقد اختار الصحافي عبدالله المغلوث لنفسه أسلوباً جديداً في فن كتابة لسيرة الذاتية، من خلال الدمج بين الاستقصاء الصحفي، والتأريخ المباشر للسيَر الذاتية، وفضَّل الإبحار في شخصيات مَن قابل عبر سردِ العجائب والطرائف والخلاصات، شافياً غليل التساؤلات التي جاشت في صدره، وتوقع - في ذات الوقت - أن الكثيرين مِمَّن حوله يحملونها، أو هُم على الأقل سيهتمون لتعليق المعنيِّين بها.

بلاغة الصمت تهز العالم

في تلك الحقبة الرمادية من مطلع القرن العشرين، حين كانت السينما لا تزال تحبو في مهدها الصامت، وكانت الصورة لغة كونية لا تحتاج إلى ترجمان يف...