بؤرة الاتزان




تأمّلتُ العالم من حولي. العالم الذي يغصّ بالمترفات والمغريات، العالم الذي ينطقُ بالمسلّيات الشاغلات، والمثيرات الغاويات. العالم الذي يكاد لا يعرف إلا لغة الأرقام ولغات الكمبيوتر. الاقتصاديات والرّقميّات. إنه انسلاخٌ لم يعرف مثله التاريخ. فبعدما كان لعلوم الدين نصيبٌ، وللأدبيّات والطبيعيّات والفلسفة واللغويّات؛ أمسينا لا نختلفُ على هيمنة هذين الفرعَين، ولا ندري كيف الخراجُ وإلى أين؟

إنها فلسفاتٌ محضة. مناهضاتٌ وتوجّهاتٌ وتحزّبات. إنها الفلسفة التي تسوّر كل شيء، وتقيْم كل شيء، وتحمي كل شيء! فلان لا يحب إغضاب والديه، لأن لديه فلسفة تدعوه لذلك، قد تكون دينية أو على مصالحَ مبنيّة، ولكنها تبقى في النهاية فلسفة. وهناكَ من يحافظ على النوم بعد العشاء، والاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل! قد يكون هذا لفلسفة نم باكراً واستيقظ نشيطاً معافاً أو لفلسفة دينية تدعو إلى الصلاة في جوف الليل أو ربما لفلسفة أن أجمل الأحلام وأهنأها لا يأتي إلا قبل انتصاف الليل!

إنّ مجرّد التأمّل في أي شيء، والنظر إليه بطريقة تساؤلية شغوفة بسبر أسراره، والبحث في طريقة عمله واستمراره، يُعد فلسفة. فالذي يتساءل مثلاً: لماذا السماء زرقاء؟ أو كيف تعمل الثلاجة؟ أو كيف يصل الماء في الشجرة إلى الأوراق والثمار العلوية؟ إن هذا المتسائل يجب أن يهنئ ذاته على إدراكاته واستدراكاته، ويجب ألا نتركه غارق في استفهاماته مهما صغر سنه أو كبر. لأنه يجدر بنا في النهاية إن كنا نودّ التوسّع في أفكارنا ورؤانا وطريقة حكمنا على الأمور أن نستبقي هذا الحِس فينا، فلنتساءل، وإن تساءلنا لنجتهد في التوصل إلى ما يسعف ويطفئ ويشبع نهمنا للمزيد.

إن هذا التسلسل في التأمل قادني إلى أفقٍ آخر لا بشريّ، أنقاد إليه هكذا دائماً في انسيابية وتلقائية لا شعوريين حين أتعمّق كثيراً في محاولاتي للربط بين ما يحدث في يومياتي والفلسفة. إنه أفق غيبيّ له شعورٌ مصدره سعادة ليست بسبب نجاحٍ أو مالٍ أو ترقية، وليست بسبب زواجٍ أو صداقة أو تحقيق أمنية. إنها سعادة ترديد عبارة: سبحان الله!

إننا نعيش في بؤرة اتزانٍ ربّاني عظيم، وحكمة إلهية لا يقدر عليها سواه، جلّ في علاه. فالفلسفات التي ذكرتُ لو أخذناها تمحيصاً وتقليباً وتفصيلاً لاصطدمنا في النهاية بحاجز الحدّ الضيق للعقل البشريّ، حيث خلفه ما لا يُعد من الحِكم والأمور التي تؤلّب المتشتت من حبائل أفكارنا، وتؤزّر دوافعنا لأن نتعامل مع أنفسنا ومَن حولنا بطريقة أفضل.

فهذا الذي يفقد يده في حادث، وذاك الذي يفقد بصره أو سمعه أو نطقه، لكم في ذلك من دوافع لأن نستذكر النعمة، ونشكر مُنعمها بالجنان، وتعمّد التركيز على فعل الإحسان بذاك الطرف أو هذا اللسان.

إنْ مرّ علينا مارٌ، ولم نحسن استخلاص سبب مروره أو حكمته، قبل الاصطدام بالحاجز الذي ذكرته، سيترتب عليه تضعضعٌ سيؤخرنا إنسانياً، وسنجد أنفسنا في النهاية متبعين للخطأ الجلل الذي وقع فيه أحد المفكرين الذي يدعى ريتشارد نيكلسون حين قال: "لا تهتم بكبائر الأمور، فكل الأمور صغائر"! على أن لا يتمّ هذا بمعزلٍ عن مصطلح (التجاهل) الذي دعوت إلى تطبيقه عملياً في أكثر من محفل بحيث أن يصطفي المرء فينا لردات فعله ما يبقيه دائماً الأجمل في مرآة نفسه ومرآة الناس.

علينا بحق أن نجتهد في إخلاص نوايانا لله واستحداث حكمته في خلقنا واستخلافنا في الأرض. فكل شاردة وواردة محسوبة علينا، ولنذعن لفلسفة تأمل الحِكَم، فوالله ما أنفع للنفس من ذاتها حين تقول لها: تأملي واعملي بالأوامر واصبري على ما حُرِّم، فـ (إنما يوفـّى الصابرون أجرهم بغير حساب).

تعليقات

  1. مجهول قال:
    يونيو 5th, 2006 at 5 يونيو 2006 12:18 م

    ***** رائع ماكتبت حقيقة ” لاأستطيع الاضافة ” تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق