قصيدة الوضع الحالي



يعكس الأدب المعاصر في حقيقة الأمر الوضع المعاصر، باعتبار أن الثقافة جسر تواصل بين الشعوب والأمم، تربطه حلقات قوية. فالبعوث الطلابية العربية العائدة من أوربا كانت محملة بالنظريات النقدية، وتعي الأشكال الشعرية الأوربية الحديثة، فأخذت تنشر الآراء والأشكال الشعرية المُتحررة عبر الصحافة العربية. وهكذا تأثر الشعراء العرب بهذا الضرر من الشعر الأوربي. وقد ظهر ذلك في دعوة أحمد زكي أبو شادي منذ ثلاثينيات هذا القرن التي أُطلِقَ عليها اسم (الشعر الحُر)، والتي تقوم على الجمع ما بين أوزان وقوافي مختلفة حسب طبيعة الموقف ومناسباته.



إن السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت حاسمة في تاريخ الشعر العربي، فقد شهدت هذه السنوات أولى بوادر التمرّد على الأسلوبية التقليدية للقصيدة العربية. وأولى بوادر التحول إلى أشكال تعبيرية جديدة تمّت على أيدي طائفة من الشباب جمعت بينهم تجربة العصر. وإذا كان هذا التحول انعكاساً لفترة التمرد السياسي والغليان الاجتماعي في الوطن العربي، فإنه جزء من الثورة الجذرية في الكيان العربي، الأمر الذي دفع لأن يأخذ الشعر الحديث مكانه بفعل التطور الاجتماعي، حتى أصبح الشعر العربي وحده قادراً على التعبير عن مشكلات العصر وتعقيداته، فتولّد الشعر الحديث للتعبير عن رؤية جديدة. فالواقع النفسي للشعراء المحدثين قد فرض نفسه عليهم. وعلى هذا الأساس تحطمت الوحدة الموسيقية للبيت الشعري المشطور، الذي تحول إلى سطر شعري، وتحولت السطور الشعرية إلى جملة شعرية، كما تحولت الجملة الشعرية إلى قصيدة لا ضابط لها سوى الإيقاع السيكولوجي لدى الشاعر. فإيقاع القصيدة الحديثة في الشعر الحر هو الإيقاع النفسي للشاعر. فالتشكيل الموسيقي للقصيدة أصبح تشكيلاً ذاتياً صرفاً، جاء نتيجة الحالة النفسية للشاعر، وعلاقتها مع التوازنات الاجتماعية والثقافية القائمة.



وتتمثل هذه الأشكال الشعرية الجديدة في تلك الممارسات الشعرية التي جدّت منذ أواسط السبعينات. وهي عبارة عن ثورة في قلب الشعر، وُصِفَت بأنها ثورة معاصرة، عمادها التحام الفكر بالعمل أو العمل بالفكر، وهذا من علامات الثورة الحقيقية. وبذلك السلوك الفني، يختلف هذا الجيل اختلافاً جوهرياً عمّا عداه في صنعته هذه، فهو لا يتجنب المعركة، بل يريدها ويتقصّدها.



والأحداث المريرة التي مرت بالشباب العربي وغيرها من عوامل القهر، ساعدت على الغموض الشعري عند الشباب، وقطع الصلة مع القديم، فظهرت القصيدة البيضاء، وقصيدة الكلمة الواحدة، وقصيدة الأفعال الناقصة، والقصيدة الإلكترونية، وأنواع كثيرة من تلك (الصرعات) التي خلقت قطيعة فعلية بين الشعر وجمهوره حتى بدأت تتشكل فجوة عميقة بين رُواد الحداثة بعطائهم والشباب بشعرهم، وتزايدت هذه الفجوة بحيث أصبحت تبعث على القلق.



وبذلك ملكت القصيدة الحديثة الشابة مجموعة من المواصفات الفنية، أهمها:

1- تفشي ظاهرة الغموض إلى الحد الذي أسهم في قطع الجسور بين الشعر ومتلقيه.

2- جنوح الشباب نحو الرمزية في زمن القهر والاستلاب والقمع الفكري.

3- تعدي الكثير منهم الرمزية إلى الإغراق في الميتافيزيقية، بحيث أصبح القارئ يحتاج إلى قواميس ومراجع كي يفهم قصيدة شعرية جيداً.

4- ضعف اللغة.

5- ضبابية المعنى.

6- شحوب الصورة.

7- تداخل الأفكار.

8- استيراد هموم الغير وسحبها على واقعنا العربي.



هذه المواصفات لا تتأتى بفعل الإبداع ذاته، وإنما بفعل أسباب خارجة عن الأسباب المتعلقة بالإبداع، أولها: الإحباطات السياسية والغزو الليبرالي الاستعماري، وفي مقدمتها يأتي الموقف من الثقافة القومية ومحاولة تحجيمها، مع تمزق القوى الديموقراطيقة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والحكومية.



كل هذا قد جاء نتيجة لإفرازات أوضاع مأساوية مضطربة، ومعركة غير واضحة المعالم أمام هذا الجيل الذي طحنته التمزقات الداخلية وغياب الحرية وانعدام الوضوح في الرؤية السياسية وكوابيس الثقافة الأوربية التي تضغط على العقل العربي. ومع ذلك فما زال طموحنا المستقبلي متوافر في التجربة الشعرية العربية، لأن شعرنا يستطيع أن يؤثر تأثيراً موازياً لأي اتجاه أدبي آخر، إن لم يكن أكثر، خاصة أننا ما زلنا أمة الشعر.

تعليقات

  1. مجهول قال:
    يونيو 5th, 2006 at 5 يونيو 2006 12:39 م

    ” اضافة ” نسمع في كل مكان من الوطن العربي ومن المثقفين على وجه التحديد ضرورة ترجمة الادب العربي الى لغات عالمية ولاسيما أن الأدب لم يعد يقتصر على مصر أولبنان أو سوريا نرى أدبا مغربيا رائعا وأدب خليجي يستحق الترجمة وهذا ماذكره ” فاروق مردم ” في لقاءه الأخير في ” روافد ” ، فاذا كان أدبنا غامض الى حد يستعصي علينا نحن أصحاب الثقافة العربية فهم معانيه ومغازيه بسبب مايحيط بالمنطقة من غموض فلمن نترجم اذا .؟؟ تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق