الثبات والواقعية.. والإبداع



في 1 مايو 2007 الساعة: 18:57 م

لقد ترسّخ فيَّ منذ عهدي بالكتابة أن الإبداع – على اختلاف تعاريفه – يأتي من الأشخاص الذين لا يعترفون بحدود الأنماط التقليدية للتفكير، فهم ينظرون إلى الأمور بطريقة مختلفة، ويعيشون – إن جاز التعبير – في قممٍ وأبراجَ رُخامية، ينظرون إلى الأحداث والأمور التي تجري من حولهم بفوقية تمكنهم من تناول ما يُريدون من عدة زوايا، وبطرق مختلفة.

وزادت حدة هذا الترسيخ في عقلي بعد عملي في مجال الدعاية والإعلان، وتحديداً في قسم الإبداع ككاتب ومؤلف إعلاني. فالحياة التأملية هيَ أرجى للمُبدع من الحياة العَمَلية البحتة إن أراد تطوير قدراته الإبداعية وزيادة مخرجاتها. ولأني كنتُ أؤمن بما ترسَّخ فيَّ حول الإبداع بناءاً على اجتهادٍ فكري فردي، فقد مضيتُ قـُدماً على ما اعتقدّتُ به، وحققتُ نتائج طيبة، لم أفهم حقيقتها وصحّة ارتباطها بما أؤمن به إلا لاحقاً!

وهكذا استمرَّيت، حتى تفاجأت بحقيقتين مهمّتين! إنهما بصراحة أهم خطوتين للتفكير الإبداعي، فالأولى تقول بأن أهم الأسس الفلسفية للإبداع تأتي من تقويم الأشياء كما هيَ بالاعتماد على قانون "الثبات" لأرسطو الذي يقول: الشيء هوَ نفسه، أ هوَ أ. والثانية هي أنَّ أهم القضايا البيئية (المحيطية) المرتبطة بالإبداع هي: السعي إلى التفكير الواقعي، أي لا تحريف ولا خداع ولا رسميات ولا أوهام! إنّ هاتين الحقيقتين أجمع عليهما "مايك فانس" العميد الأسبق لجامعة ديزني، و"ديان ديكون" رئيسة جمعية التفكير الإبداعي الأمريكية. وقد أورداهما في كتابيهما: Think Out Of The Box.

لقد شكلَ لي ذلك اكتشافاً أعاد صيغة الإبداع عندي، واستغرق مني وقتاً كي أستوعبه. فالحقيقتان ثابتتان حين طبقتهما على كل ما هوَ إبداعي بحق، ولكنهما يخالفان بصورة كبيرة ما كنتُ أؤمن به. فشخصيات "والت ديزني" – على سبيل المثال – هيَ إبداعية بحتة، وجميعها خارجة عن المألوف من حيث الكينونة أو الشكل أو تجاوز القوانين الطبيعية؛ ولكنك تجد جميع تلك الشخصيات دون استثناء تتحدث وتأكل وتتفاعل مع الأحداث بواقعية وتلقائية كما لو كانوا بشراً يعيشون بيننا. لا أنكر أنّ هناك مبالغات، ولكن هذا لا يتعدّى كونه أسلوباً تشويقياً يغمزُ في الجانب الأهم من الشريحة المستهلكة المستهدفة.

وكذلك اللوحات الفنية، والقصائد، والتصاميم المعمارية، بل كل ما يمكن للإبداع مجانسته وتحسينه، ستجده لا ينفكُّ أن يكون "ثابتاً" و"واقعياً". فالبيت إن تمَّ تصميمه على شكل باذنجانة – مثلاً – سيبقى بيتاً (ثبات)، وسيحتوي على مكان للنوم وآخر للجلوس وثالثاً لقضاء الحاجة (واقعية)، وهوَ على شكل باذنجانة وليس على شكل شيء مجهول الهوية أو غير معروف (واقعية). وبالعكس، فالقصيدة أو اللوحة الفنية إن خرجتا عن هاتين الحقيقتين، ستكونان ضرباً من الهرطقة التي لا معنىً ولا تعبير ولا أصل لها.

وينطبق هذا أيضاً على الأفكار الإبداعية المتصلة بالإعلانات. فلن تجدَ مستجيباً بأي حال لإعلان فكرتـُهُ مبنية على (الزَّيف) و(الخـَيَال)، ولا تندرجُ تحت هذا المبالغات المُطـَعِّمة التي لا بُد منها للخروج عَن المألوف. وإن كانت هناك قلة من الشركات الإعلانية التي لم تزل مُصرِّة على تزييِّف الحقائق والانسلاخ عن ميثاق النزاهة الإعلانية والاحترام والمصداقية في مخاطبة الجمهور.

ووقوفاً على (الواقعية) وتضادّها مع الرسميات، فقد نبّهني هذا إلى حل اللغز الذي كان يحيّرني حين كنتُ في المرحلة المتوسطة. فقد كان يدرِّسنا مادة التربية الفنية أحد الفنانين السعوديين المعروفين الذي انتشرت له لوحات رائعة في مطاريّ الرياض وجدة الدوليين، وكذلك شاهدّتُ له عدة لوحات ضخمة في مستشفى الملك فيصل التخصصي في جدة. المهم.. إنَّ اللغز يكمن في أنَّ هذا الأستاذ المبدع كان لا يهتم بمظهره البتة! فثيابه في كل المحافل قصيرة عن غير قصدٍ وليست نقية، وعِمامته دائماً مجعّدة، وأزارير ثوبه مفتوحة باستمرار، وذقنه نادراً ما تجدها مشذبة! إلا أني، وبَعد أن وقعتُ على أنّ (الواقعية أهم خطوة للإبداع) تيقـّنت من أن هذا الفنان المبدع كان واقعياًَ بشدة، لدرجة أنه ألغى التكلـُّف والرسميات من حياته!

تعليقات

  1. نوره العبدالعزيز قال:
    مايو 13th, 2007 at 13 مايو 2007 2:39 ص

    السلام عليكم

    الثبات والواقعية موضوع ممتع ..

    برايي أن كل شيء لا يأتي الا بالصدق والواقعية ولكن تختلف الأساليب القدمة بها .

    دمت بخير وبكل تألق،،

    ردحذف
  2. ريان جمال قال:
    أكتوبر 13th, 2007 at 13 أكتوبر 2007 5:58 ص
    السلام عليكم..

    الموضوع يحتاج إلى تركيز شديد..

    واسمح لي أن أفترض أن النظرية هي مجرد رأي علمي لا يرتقي إلى درجة القانون ولا يدنو إلى درجة الفرضية. هذا عند علماء العلوم الطبيعية.

    أما في الفلسفة.. فالموضوع مزيج بين خبرة ذاتية وتأملات ذاتية.

    فاسمح لي أن أقول رأيي..

    لماذا أسود وأبيض.. إما هذا وإما ذاك..
    لماذا تضع الخيال في جانب وتضع الواقع في جانب آخر..
    لماذا تضع الخيال في سلة واحدة مع التزييف وتجاوز القوانين الطبيعية. وتضع معهما الخداع والتضليل.(أعتقد أن كلمات التزييف والخداع والتضليل أقحمت في النقاش وتسببت في إيحاءات أكثر من اللزوم).
    ولماذا تضع في المقابل في سلة واحدة كلاً من الثبات والواقعية والمصداقية.

    ثم تأتي بعد ذلك وتطالب بالحكم على الإبداع إما في السلة السوداء وإما في السلة البيضاء.

    الإبداع وسط..

    لا أقول هو أن تأخذ شيئاً من هذه السلة وشيئاً من هذه السلة..
    بل الإبداع هو أن تتمرس ثم تتفننن في أن تستخدم شيئاً من هذه السلة وشيئاً من هذه السلة.

    فالبيت على شكل كمثرة بيت جميل ولكن ليس جماله لأنه ثابت وليس جماله لأنه مقتبس من شيئ ثابت. إنما جماله في خروجه عن المألوف الذي هو في عقول الناس. لأن كون البيت على شكل كمثرة شيء غير مألوف. وهنا مكمن الإبداع.

    أما إذا جعلت البيت على شكل تفاحة فهذا إبداع أكبر لأنه لم يسبق له مثيل وإن كنا نتفق على أن التفاح معروف.

    لماذا تفترض أن شخصيات ديزني اكتسبت جمهورها من خلال واقعيتها..؟ أعتقد أن الفن في مزج الواقع بالخيال هو الذي أكسبها جمهورها..
    الواقعية التي فيها هي التي حافظت على الحد الأدنى من الترابط بين الجمهور وبين ما يألفه في عقله.. وبهذا ساعدته على فهم الخيال الذي تقدمه ديزني.

    ولهذا السبب.. أنا لن أفهم اللوحة التي يرسمها الفنان وهي عبارة عن نقطة سوداء على ورقة بيضاء. لأنها تميل كثيراً إلى جانب الخيال وتبعد عن الواقع.

    ولن أنطبع كثيراً باللوحة التي هي مجرد صورة فوتوغرافية لشارع قربان في وقت الظهيرة. لأنها تميل كثيراً إلى جانب الواقع المألوف وتبعد عن الخيال.

    أما الأستاذ محمد سيام فهو فنان مبدع وهو في نفس الوقت لا يهتم بمظهره. وأعتقد أن العلاقة بين الصفتين ليست علاقة سببية بل هي مجرد علاقة تلازمية. فشخصية “المفكر المبدع” من لوازمها عدم الاهتمام بالمظهر. ولو عدت لمراجع تصنيف النفسيات مثل مجموعة أشرطة “أسرار النفس البشرية”. ستجد أن شخصية “المفكر المبدع” تختلف عن شخصية “الفنان”. وتجدها تنطبق كثيراً على محمد سيام وعلى أديسون وعلى أينشتاين. ومن غير أن يكون أحد الصفتين سبباً في الأخرى. كما تجد صاحب العيون الخضراء غالباً بشرته بيضاء، علاقة تلازمية لكنها لا تعني أن العين الخضراء هي سبب بياض البشرة ولا أن البشرة البيضاء هي سبب كون العين خضراء.

    أعذرني على الإطالة.. لكنك قلت لي..
    رأيك يهمني..
    وأشكرك على تحملي

    ردحذف

إرسال تعليق