هكذا بدوت!


كنتُ قد اعتدتُ الكتابة في مرحلة من مراحل حياتي، مع أني لم أكن قارئاً كما أنا عليه الآن، إلا أني كنتُ غزيراً مُلهَماً، تقتاتُ روحي على ما أكتب، والتفاعل مع القصص والأحداث المحيطة بما أسرد. وهذا كان يُريحني أكثر من أي شيء آخر.

كنتُ هكذا أيام الجامعة، والعمل البسيط بدوام جُزئي في مكتب صغير للسياحة. وبعدها، وحين احترفتُ نوعاً من أنواع الكتابة الإبداعية بعملي في شركة للدعاية والإعلان، صرتُ قلما أكتب. هل أشغلني العمل، أم ارتباطي بالواقع أكثر؟ لا أعرف تحديداً. إلا أني كنتُ ثقيل التفاعُل، غريبَ الحرف، كثير الصِّدام مع أفكاري المتوالدة.

وبعدُ، تقاسمتني الأيام، وتشبَّثت بي الوقائع تشبُّث الأرض بمدارها، فدفنتُ ذاتي في مشاكل غيري، واقتحمتُ أسوار التحليلات السياسية والرياضية والاقتصادية، وغيَّبتني السقائمُ، وداهمني الجِد، فخضتُ حروباً لا تخصني، واستلهمتُ أشياء باهتة، فابتعدت عن السماء، والتصقتُ بكل ما هوَ أرضي، ظاناً أن التسارُع الذي نعيشه يحتاجني، لأسبق دوران الأرض، مع أنها تدور بسرعة رهيبة، ولم أستطع حتى اللحظة.

وهكذا بدَوْت دون أن أعرف، لتتقاذفني الأمواج وتخض بي تجربة جديدة، حسِبتُها لا تبتعدُ كثيراً عن مجال الكتابة الإبداعية الإعلانية، فكانت التسويق المركزي لمؤسسة صحفية عتيقة. أعلم! أعلم! بإرادتي، ولكن حتى الإرادة أحياناً إذا حادت عن مسار المتوقَّع تتوه، وينقطع ارتباطها بالعقل، لتتقولَب بألف شكل، أتاني منه شكل الفرصة المهنية التي يجبُ أن تُستغل، حالماً بأن أكون وزيراً! ولن أكون إذا بقيت في غرفة بقسم بداعي في شركة عالمية، أكتبُ ولا يُعرف مَن خلف ما أكتب.

تقلَّدتُ المنصب في المؤسسة الصحفية بسعادة سعادةِ مدير، مدير إدارة التسويق المركزي، وبدأتُ رحلة الإيجاد والتوفيق. اعتقدتُ كما اعتقدَ من قَبِل بتوظيفي أن الآتي من عالم الدعاية والإعلان سيُجيد التسويق المركزي! ولكني كنتُ شاطِح الاعتقاد، مُمِنياً ذاتي بأن الأمور ستسير على ما يُرام، وسارت، ولكن ليس كما كنتُ أريد. تذكرت حينها نصيحة مديري السابق في شركة الدعاية والإعلان: "التسويق لا يعرف له إلا النصابين، وأنت لست نصاباً!" تمنيتُ حينها أن أجد مكاناً يُعطيني دورة في النصب والاحتيال.

اكتشفتُ أني في المكان غير المناسب تراكمياً، دون مُعدَّلات ولا تعديلات، هكذا بدت اللوحة، رسمتها لي العشوائية في توزيع وإنجاز المهام، وأظهرتْ ألوانها خيبة أملي في أني – وفي هذا العُمر – غدوتُ لا أتعلم شيئاً جديداً! الأشخاص رائعون في المؤسسة الصحفية التي عملتُ بها، بل أكثر من رائعين؛ ولكنهم يُجيدون لُعبة الانعزال عن العالم الخارجي، والاغترار بالطاقات الكامنة في موظفيهم وحسب، ويطمحون إلى بلوغ القمة دون أداء أسباب هذا البلوغ، ومن غير التماس حجم التغيُّر المحيط، ووصول المنافسين إلى العالمية بانفتاحهم وقراءتهم الجيدة للسوق، واستعانتهم بخبراء التطوير والبحث والمقنن. حينها لم أشأ خوض اللعبة خاضِع العقل، ولم أبغِ قتل ما بقي مِن إبداع عرفته، ولا الوقوف موقف المحارب الذائد عن ما عرف من مُسلمات وتلميحات منطقية من سواه من خبراء الصَّنعة، فانتهيتُ إلى قرار البحث عن اللجوء غير السياسي إلى صحيفة أخرى أكثر جُرأة وإثارة وانفتاحاً، ولكن هذه المرة كمُحرِّر.

ومع رتابة الأيام، وتلاطُخ الأحداث، قَصُرَ نفسي في الكتابة كلياً، حتى صِرتُ أكتب أول سطرين وأمحي كل شيء، وأقفل جهازي غير آسِف! ليسَ نقصاً في الأفكار والآراء، ولكنه اختلاطُها وتشابُكها، حتى أصبحتُ لا أميِّز بين رأيي في أمرٍ ما بين ليلة وضُحاها.

الغريبُ أنَّ هذا الاحساس المفضوح لم ينعكس علي، بل أصبحتُ بلا هوادة أتعطش للأعمال الجانبية الرسمية، وأنجز بقبول، ولكن هذا الاحساس أثر كثيراً على المقرَّبين مِن حولي، حتى تُراهم ينظرون إلي ولا يعرفونني، وترسُم عينايَ لهم الطواعية والحسرة بغموض رهيب.

اليوم كان آخر يومٍ لي في عملي الحالي، وسأبدأ بعد يومين عملي الجديد بمنصب مُراسِل صحفي والمُحرر المختص بالإعلام الجديد في مؤسسة صحفية أكثرُ شأناً في نظري! أشعر بنشوة الخَلاص من خطيئة الخلط بين الكتابة والإعلان والتسويق، وسأختار لنفسي الكتابة، حتى وإن كانت صحفية أو مرتبطة بالإعلام بأنواعه، فهي في كل الأحوال الرَّاحة والإراحة، والعَطاءُ والغذاءُ والماء، والتجسيد والترسيخُ والخَلاص، فالحياة - كما يقولون - كلمة، وعلى قول أخي الأكبر عُمراً وشأناً الدكتور في طب جراحة العظام ريان: "الكتابة نِعمة كبيرة".

تعليقات