بعد قرارات الملك عبدالله الأخيرة حول إمكانية أن تتبوَّأ المرأة السعودية مقعداً في مجلس الشورى، وأن تُرشَّح وتُرشِّح للانتخابات البلدية، كان الحكم بجلد مواطنة في السعودية لأنها قادت سيارتها كالصفعة على الأفواه التي لا تزال مبتسمة إثر قراري الملك.
الصدمة كانت قوية لدرجة أن الكثيرين مثلي لم يجدوا إجابة يردون بها على كل من سألهم: ماهذا التناقض بين قرارات الملك، وحكم الجلد؟
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُعاني فيها المجتمع السعودي من هذا التناقض، وتلك الصفعات، بل كَتب التاريخ حوادث مشابهة، انبرت فيها كل سلطة لتحمي معتقادتها ورؤاها، بينما الفرد الذي يعيش على أرض هذه البلد هو الضحية، إذ يتخبط بين سلطة عقلانية تريد مواكبة العالم بالعلم والثروات الكبيرة المتاحة، وأخرى تؤطِّر الأشياء روحانياً بالدين، وزمانياً بإسقاط مفاهيم تفاهة الدنيا، والعالم يتآمر علينا، والخطر يحدق بنا من كل جانب، وأمريكا ليس لها هم سوى إشغالنا عن ديننا.. ومما يجري في هذا السياق.
ولم يكن للسلطة الدينية أن تدعي أنها ضد العقل أو تناقضه، حتى لا تفقد الثقة، ولكنها كانت ولا تزال تقدم العاطفة على الفِكر، والموروث على المبتكر، والبائد على الوليد؛ فتعددت صداماتها مع كل ما لم تعتد عليه، ولم تجده مكتوباً بـ "النص" فيما توارد إليها.
القصة لم تبدأ منذ أن كان الملك فيصل ولياً للعهد، وأراد رسمياً أن يقر تعليم البنات في السعودية في بدايات الستينيات من القرن الماضي، وسُمي ذلك الحدث فـ "فتنة تعليم البنات"، بل سبقتها صدامات إدخال الراديو وطباعة أول صحيفة، والتلفزيون والهاتف والتلغراف، بل هناك قصص عن محتجِّين على استدعاء الملك عبدالعزيز لشركات النفط الغربية لتنقب عنه في دولته الناشئة (أنظر كتاب "سمو الأميرة" لجين ساسون).
ومما عاصرنا، ويعرف الجميع، وقوف هذه السُّلطة ضد أمور تافهة، وإشغال السلطات الرسمية والمجتمع بها عما هو أهم، رغم قلة جدوى الخوض فيها أكثر من اللازم، وتجاوز الدول من حولنا لها دون تعطيل يُذكر، كالهواتف النقالة المزودة بكاميرا، وأطباق استقبال البث الفضائي، والتأمين بأنواعه، والأغاني، والاختلاط، والآثار الإسلامية، وكشف وجه المرأة، والابتعاث، وقيادة المرأة للسيارة، وغيرها من القضايا التي إما رضخوا لها بعد محاربتهم لها، أو لا يزالوا يحاربونها غير مبالين بتعدد الأقوال والمذاهب والنِّحل فيما اختلفوا فيه مع العالم.
نحنُ أمة إسلامية، تعتز بإسلامها ولا ترضى له بديلاً، ولكن الإسلام لم يكن يوماً رمزاً للتناقض، وليس منبعاً للكبت الذي تولد إثر عنف الصدامات بين السُّلطتين وهولها.
إن ما نعيشه نحن شباب هذا الوطن أشبه بالاستقطاب الذي يجعل النفس حائرة بين نقيضين في حالة حرب مستمرة، مما أذكى عندنا حِس التصنيف، وهاجس المداهنة، والخوف المستمر من إعمال العقل بتجرد فيما يخص القضايا الدنيوية البحتة.
ولا يصح في هذا السياق أن نستشهد بما عاشته أوروبا في مستقعها الظلامي بالقرون الوسطى، حين هيمنت الكنيسة على الحياة العامة، وحاربت العقل والمادة، وأبدلتهما بالروحانيات والخرافات، حتى استوعبوا خطورة ما يحدث، واستغرق الأمر منهم 3 قرون ليُزيحوا الظلام عن حياتهم البدائية، وينعموا بهبات الله للإنسان، ويستسلموا لكفاح العقل المستنير؛ كل هذا لا يصح أن نسقطه على ما نحياه لأن ديننا حكيم سَمح كامل، دعا في غير مقام إلى تقديم العلم على العبادة، واستثمار العقل، وتأمل الكون، وعمارة الأرض، وحسن الخلافة فيها.
توحيد السلطات في سلطة رسمية واحدة، لها نظرتها وخطتها وأملها في تطوِّر وطننا، سيبعث الأمل في جيلنا، ويزيد الثقة فينا لأن نُخلص من قلوبنا؛ وحينها لن يبقى للمستقبل المجهول، ولا للصورة الغامضة، ولا للألم الذي يعتصر قلوبنا، مكان ولا مصدر.
الله وحده يعلم ما نحن مقبلين عليه، إذا لم نتخلص من لعنة التناقض التي ترافقنا.
تعليقات
إرسال تعليق