يكثر الحديث هذه الأيام عن الأولويات، وكيف نحددها، وما الذي يجل أمراً ما أولى عند البعض من أمور أخرى؟
لا مفر من المزايدة على الأولويات، والاختلاف حولها ليس حديثاً بالطبع، فأبونا آدم - عليه السلام - رأى أن الأكل من الشجرة أولى من الانصياع للحذر منها، بل إن كل الخلافات منذ الأزل، كان سببها اختلاف الأولويات، وهكذا نشأت الخلافة في الأرض وتكوَّنت البلدان، فاتحد بعضها، وتنافر الآخر، وقُضِيَ على الآخر.
وللاختلاف حول الأولويات أيضاً دور في إثرائنا بمختلف العلوم، فتحت كل علم كان الخلاف حول الأولويات مصدراً لتعدد المدارس والرؤى، ومن هنا اكتشف العلماء المصباح والهاتف والنسبية، لأنهم - بطبيعة الحال - منحوها أولوية البحث والتقصي.
إن تهميش أمر ما، يصنفه البعض على أنه مهم، يقتضي منا الحُجَّة الدامغة، والمبرر المقنع، حتى تنتفي أولويته، ويتم التحول إلى ما سواه، وإلا فإن في هذا خطورة لا يُستهان بها، قد تربك تقدمنا في مختلف المجالات، وتجعلنا نسخاً متكررة، همنا أمر واحد بعينه، نغدو ونروح، وفي قرارنا أن لا شيء مهم سواه.
وحين ثارت بعض الشعوب على حُكِّامها، كانت رياح التغيير تجوب أنحاءهم، تنذرهم بأن لهذه الثورة أولوية تتجاوز اهتماماتهم المعتادة، وستسفر لو كُتِب لها النجاح عن أوطان قضت على طغاتها، ومحقت دابر فـُسَّادِها، وكتبت مستقبلها الذي تريد.
في هذه التجربة التاريخية التي نعيشها درس مهم في الأولويات؛ فحين تتحقق حرية الفرد، ويكرم عيشه، وتتحقق له المساواة، وتُزال عنه كل أساليب الوصاية الفوقية، ويُعفى من جبروت الجز في دائرة أولويات فرضت عليه ولم يخترها؛ سيتشتت الناس بأولوياتهم، كل بحسب هواه، فيبدعون ويُنتجون، ويُحققون لأوطانهم ما أرادت.
أما إذا مُورس القمع، سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، ومُحِقت عوامل توفر الحرية الفردية، وكان حديث المجالس دوماً عن فساد المسؤولين واستهتارهم، فسينظر الناس نصب أمر واحد، وسيجعلون له الأولوية القصوى؛ كيف نُحسِّن من أمرنا.. كالآخرين.
بدلاً من أن نجبر الآخرين على أولوياتنا التي اتخذناها لأنفسنا، لنقبلهم بأولوياتهم التي اختاروها لأنفسهم، إذا كانت مقبولة أخلاقياً، ولنكوِّن وطناً صحيحاً، ذا حضارة متنوعة متشعبة، تستحق أن يُقرأ عنها.
تعليقات
إرسال تعليق